شتيوي الغيثي

بعض المثقفين العرب المسيسين أعادوا وتيرة التشكيك والقدح في الخدمات المقدمة للحجيج، وهذا استغلال سياسي لفريضة دينية بحيث يمكن أن تتحول معها الفريضة إلى فرصة للمناكفة السياسية

&


في البداية نعزي كافة الأقطار الإسلامية في ضحايا التدافع الذي حصل في حج هذا العام في أول أيام الأضحى، وهي حادثة فاجعة بلا شك، لكن الإشكالية أن تتحول هذه الحادثة إلى تجاذب سياسي أو تدخل في إطار نقد سياسي أكثر منه نقدا موضوعيا يذهب إلى مساءلة الخلل الخدماتي، فهنا ما يمكن رفضه، وهذا المقال يدور حول هذه الفكرة أي فكرة تحويل الحج إلى مناكفات سياسية، سواء بين دول إسلامية، أو بين أحزاب سياسية من هنا أو هناك.


وعلى الرغم من أن فريضة الحج كانت، ولا تزال، فريضة دينية خالصة إلا أنها لم تسلم من حالة التسييس في التاريخ العربي، فعلى مدار هذا التاريخ كاملاً، حتى ما قبل العهد الإسلامي، كان الإجلال للبيت الحرام كبيراً؛ بل أخذت قريش مكانتها الدينية والسياسية بحكم مجاورتها البيت وخدمتها حجاج مكة، حتى إن التنافس السياسي بين قبائل مكة كان يدور حول القيمة الدينية والسياسية المعتبرة عند قبائل الجزيرة في ذلك الوقت، كما أن الدول الإسلامية التي تعاقبت وتصارعت على الخلافة منذ العهد الراشدي حتى تشكل الدول القطرية الحديثة الخارجة عن إطار الخلافة القديم إلى مفهوم الدولة الحديث، كانت تحرص كثيرا على خدمة البيت وضمه ضمن حدودها السياسية، وتعمل على خدمته على أكمل وجه لما لخدمة الحجيج من قيمة دينية معتبرة، حتى لو كان ذلك عن طريق القوة السياسية والحربية على الرغم من حرمة ذلك دينيا، كما حصل لدى الدولة الأموية أيام خلافة الوليد بن عبدالملك حينما كان عبدالله بن الزبير خارجا على طاعة الدولة الأموية، وجاعلا من مكة نقطة انطلاق حركته السياسية الثورية ليتولى الحجاج بن يوسف الثقفي جيش الأمويين لإخضاع مكة والزبيريين تحت حكم الأمويين، وليضرب الكعبة بالمنجنيق ولتسقط مكة في الأخير في يد دولة بني أمية كما هو معروف تاريخيا؛ بل إن بني أمية كانوا حريصين كل الحرص على إخضاع مكة قبل غيرها، على الرغم من كثرة الثورات السياسية على الأمويين إبان خلافتهم، وذلك لمكانة مكة القدسية لدى المسلمين جميعهم، والعرب خاصة، كون الكعبة ميراث أبيهم إبراهيم الخليل، ولها طابعها العربي في الرمزية الدينية لخضع شعور العرب كافتهم في سياق واحد جاء من داخلهم حينما كانوا يطمحون إلى ما يوحدهم ضد الدولة الفارسية في شمال شرق الجزيرة العربية والدولة الرومانية في شمالها الغربي، خاصة أن النفوذ الفارسي والنفوذ الروماني كانا يحاولان السيطرة على مناطق شمال وجنوب الجزيرة بالذات حتى أصبحت اليمن في الجاهلية بؤرة توتر سياسي، ولذلك يحاول العرب أن يجدوا لهم مكانتهم الدينية والسياسية الخاصة بهم من خلال وجود الكعبة في موطن بعيد عن مناطق الصراع السياسي والتوترات الإقليمية كمكة المكرمة، وهنا يتنبه النفوذ الروماني/ المسيحي وقتها لإخضاع مكة من خلال القوة الحبشية (جيش أبرهة) لكن الحملة باءت بالفشل الذريع لتبقى مكة خارج النفوذ الفارسي والنفوذ الروماني المتنافس على إخضاع الجزيرة العربية.


ولأن الكعبة بالنسبة للقرشيين كانت فرصة للهيمنة السياسية والقوة الاقتصادية على باقي قبائل الجزيرة حتى إن الملأ من قريش لم يكونوا يقفون في عرفات كنوع من التميز الأرستقراطي عن بقية القبائل، فقد جاء الإسلام ليعيد إلى مكة قيمتها الدينية بعيدا عن الصراعات السياسية، ولتبقى مكة خارج النزاعات التي تحتدم جراء التنافس السياسي على افتراض أنها بقعة من البقاع التي تتجسد فيها فكرة السلام: "ربي اجعل هذا البلد آمناً" كما ذكر القرآن عن دعوة إبراهيم.


لكن هذا الوضع لم يدم طويلا إذ عادت مكة ورقة سياسية من أخطر الأوراق على مر التاريخ الإسلامي؛ بل هي الورقة الرابحة في كل الدول التاريخية التي استطاعت ضم مكة إلى جغرافيتها، حتى إن حركة كالقرامطة مثلا في أواخر الدولة العباسية كانت تسلط كل عملياتها السياسية على محاولة إخضاع مكة تحت نفوذها حتى ذكر في بعض المصادر التاريخية أنها استطاعت الاستيلاء على الحجر الأسود سنوات طويلة والارتحال به إلى موطن الحركة ومنشئها في شرق الجزيرة العربية.


ولأجل محاولات الهيمنة السياسية على مكة من قبل بعض الخلفاء لمكانتها الدينية تحولت الكعبة، في بعض صفحات التاريخ الإسلامي، من قيمة دينية إلى قيمة سياسية، ليتحول الحج من فريضة دينية إلى لعبة سياسية ضاغطة يحتدم الصراع حولها أكثر مما يجب حتى صارت في بعض أزمانها بلدا غير آمن خلافا للنص القرآني.


أعيد سرد هذه الوقائع التاريخية بعد عدد من تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين والأتراك في التشكيك بقدرة السعودية على التعامل مع موسم الحج بكفاءة، كما أن بعض المثقفين العرب المسيسين أعادوا وتيرة التشكيك والقدح في الخدمات المقدمة للحجيج، وهذا استغلال سياسي لفريضة دينية بحيث يمكن أن تتحول معها الفريضة إلى فرصة للمناكفة السياسية. يمكن محاسبة المقصرين في خدمات الحجيج، أو الدعوة لمحاسبتهم، لكن من المهم ألا تدخل هذه الدعوات في إطار سياسي لأن فريضة الحج بحكم وضعها الحساس من المفترض ألا تتحول إلى أي عمل سياسي، كونها الفريضة الوحيدة التي لا يمكن أن تقام في أي بقعة غير مكة؛ لذلك كان لا بد أن نحيّد السياسي في هذا الوقت بالذات حفاظا على الديني؛ لأن تداخل السياسي في الديني سوف يضر الديني أكثر مما يضر السياسي. وحينما تصبح الفرائض الدينية في خدمة السياسة؛ فإنها تتحول عن كونها دينيا متصلا بالمتعالي إلى كونها سياسة متأثرة بإشكاليات الدنيوي والواقعي.


إن الدين حينما يتحول إلى لعبة سياسية؛ فإنه يصبح مفرغا من مضامينه الدينية حتى يصبح مجرد طقس فارغٍ من معناه الروحي، ولذلك فإن فصل الديني عن السياسي هو في مصلحة الديني كما أنه في مصلحة السياسي؛ مصلحة للديني بحيث لا يستغل في القضايا السياسية ويصبح خادما للسياسي، ومصلحة للسياسي حتى لا يصبح الدين فيما بعد ورقة سياسية ضاغطة مضادة، ولذلك على بعض الدول الإسلامية أو الأحزاب الإسلامية أن تعيد النظر في تصريحاتها التي لن تكسب من ورائها إلا الخسارة السياسية كما هي الخسارة الدينية.
&