وليد فتيحي

التعريف القاصر للعلمانية جعل كثيرين ينظرون لها على أنها مجموعة أفكار وممارسات وإجراءات واضحة في مجالات السياسة والاقتصاد بمعزل عن مدلولاتها ومرجعيتها وتاريخها


عند بحثي في تعريف موضوع (العلمانية) أدركت مدى الإشكالية التي يواجهها معظم الباحثين والدارسين لهذه القضية، وهي الإشكالية التي أدت إلى تقليص البعد والعمق الدلالي لكلمة (علمانية)، فعبارة (العلمانية) تترجم في بعض التراجم بفصل الدين عن الدولة، وهي ترجمة للعبارة الإنجليزية Separation of church and state، وهي تعني حرفياً فصل المؤسسات الدينية المتمثلة في الكنيسة عن المؤسسات السياسية في الدولة، وبذلك فإنها تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي والاقتصادي وربما في بعض مجالات الحياة الأخرى، ولكنها تستثني شتى النشاطات الإنسانية الأخرى من دائرة عمل العلمنة أو أنها تلتزم تجاهها الصمت.
ولكن هل هذا التعريف صحيح ودقيق أم أنه تسطيح لقضية أعمق من ذلك بكثير واختزال لنشاطها؟
بل عند مراجعة التعريفات المختلفة في المعاجم العربية والغربية، فإننا نلحظ ذلك التأرجح بين تعريفين مختلفين تماما من حيث التصور والنشاط والمرجعية والمدلول، فهناك تعريف جزئي بوصف العلمانية بأنها إجراءات جزئية لا علاقة لها بالأمور النهائية، فهي تقبل المطلق الديني أو الأخلاقي أو الإنساني مقابل تعريف آخر شامل بوصفه رؤية شاملة للكون لا تقبل مطلقات.


ووجدت أثناء بحثي أن خير من وضح وفصل في هذه الإشكالية هو الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه المرجعي: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.


يوضح د. عبدالوهاب المسيري بعض الأسباب التي أسهمت في تقليص الحقل الدلالي لكلمة علمانية، وأهمها تسطيح قضية العلمانية واختزال نشاطها باعتبار أنها فصل الدين عن الدولة، أي فصل المؤسسات الدينية المتمثلة في الكنيسة عن المؤسسات السياسية (الدولة)، والاعتقاد بأن عمليات العلمنة قاصرة على المجال السياسي ولربما الاقتصادي وبعض مجالات الحياة العامة، واستبعاد شتى النشاطات الإنسانية الأخرى وعدم التدخل فيها أو التزام الصمت تجاهها كما ذكرنا سابقا.


وهذا التعريف للعلمانية أعطاه المسيري اسم العلمانية الجزئية، واعتبر أن تعريف العلمانية على هذا النحو يتجاهل قضية المرجعية أو ما أسماه (النموذج الكامن وراء المصطلح)، وأكد على ضرورة أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل. بل إن هذا التعريف القاصر للعلمانية جعل كثيرين ينظرون للعلمانية على أنها مجموعة أفكار وممارسات وإجراءات واضحة في مجال محدد في السياسة والاقتصاد بمعزل عن مدلولاتها ومرجعيتها وتاريخها. وفي هذا تبسيط واختزال لظاهرة اجتماعية كاسحة أدت وتؤدي إلى تحولات بنيوية عميقة أعادت وتعيد صياغة وجدان الناس في شتى مجالات الحياة، ولا تكاد تستثني ناحية من نواحي الحياة، بما فيها أحلام الناس ورغباتهم وأدق تفاصيل حياتهم الخاصة.


وبذلك فإن هناك فرقا بين تعريفين، التعريف الأول هو العلمانية الجزئية بكونها رؤية جزيئية للواقع (براجماتية وإجرائية) لا تتعامل مع الأبعاد الكلية النهائية المعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، وهي الرؤية التي ترى وجوب فصل الدين عن السياسة والاقتصاد والتزام الصمت تجاه باقي الحياة، وبذلك فهي لا تنكر وجود ما وراء المادة ولا الكليات الأخلاقية والإنسانية والدينية، وإن كانت لا تسقط الواحدية الطبيعية المادية (أي إرجاع كل شيء إلى العقل الذي يتعامل مع كل شيء من المنطلق المادي المرئي المادي والطبيعة)، بل تترك الخيار للإنسان للتحرك في الحيز الأخلاقي الديني خارج السياسة والاقتصاد وبعض المجالات الأخرى كيفما يشاء.


أما التعريف الثاني، وهو العلمانية الشاملة، فهو يعرفها بأنها رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي كلي ونهائي يحاول بكل طرقه تحديد علاقة الدين ومطلقات الماورائيات (الميتافيزيقا) في كل مجالات الحياة، وهي رؤية مادية تستند على العقل البشري وتدور في إطار مرجعية أحادية مادية ترى أن مركز الكون كامن فيه لا يفارقه ولا يتجاوزه، فهي وحدة وجود مادية، والعالم مكون من مادة واحدة لا قداسة لها لا تحتوي على أسرار أو غموض، ويستطيع العقل أن يكشفه ويحيط به.


وبالطبع تتفرع عن هذه الرؤية (منظومات معرفية)، فالحواس والواقع المادي هما مصدر المعرفة وتتفرع عنهما رؤية أخلاقية، فالمعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق، وكذلك تتفرع منها رؤية تاريخية ورؤية الإنسان لذاته، فهي جزء لا يتجزأ من الطبيعة ليس له وعي مستقل.


بل ومن إشكاليات تعريف العلمانية إشكالية تصور العلمانية بأنها فكرة ثابتة تبدأ جزئية ويمكن لها أن تثبت دون أن تتطور بمتتالية متسارعة لتصل إلى مرحلة الشمولية. ومرة أخرى فإن هذه الإشكالية في التصور ناتجة عن تجاهل قضية المرجعية أو النموذج الكامن من وراء المصطلح والإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل، وكذلك ناتجة عن تصور البعض أنها ليست ظاهرة تاريخية وإنما هي ظاهرة محددة تتم من خلال آليات ومجموعة أفكار وممارسات واضحة. فكيف نشأت العلمانية؟ ولماذا نشأت؟ وما هو النموذج الكامن وراء المصطلح؟
نشأت العلمانية في أوروبا في القرن الثامن عشر كأبرز معالم فلسفة التنوير الوضعي الغربي في حركة النهضة الحديثة، والتي جاءت كرد فعل لمجابهة تسلط الكنيسة الكاثوليكية وتجاوزها لكل الحدود التي نصت عليها النصرانية من التركيز على الروح وتزكيتها وخلاصها. وبعد أن كانت أوروبا تحكم بسيادة نظرية السيفين the Theory of the Two Swords أي السيف الروحي المتمثل في السلطة الدينية (الكنسية) والسيف الزمني المتمثل في السلطة المدنية (الدولة)، استطاعت الكنيسة أن تحوز وتسيطر على السلطتين معاً بسيادة نظرية السيف الواحد the theory of the one sword سلطة جامعة بين الديني والمدني، سواء تولاها البابوات أو الملوك الذين يباركونهم ويختارونهم، ومنها انطلقت نظرية الحق الإلهي للملوكthe Divine right of kings، فرفضت وجرمت وأنكرت كل ما هو غير موجود في الأناجيل، وبذلك دخلت أوروبا في عصورها المظلمة.


وسنتحدث لاحقا عن بدايات العلمانية كعلمانية جزئية مع بقاء تعاليم الدين النصراني والمطلقات الإنسانية مستمرة في وجدان الإنسان الغربي، لنرصد ما إذا كانت العلمانية الجزئية قابلة لأن تنتهي إلى علمانية شاملة أم لا.
&