غسان الإمام

لم يعرف القرن العشرون فن توزيع الأدوار في العلاقات الدولية. فقد احتكرت أميركا دور الشرطي الذي يفرض بالدبلوماسية والقوة العسكرية رؤيته. وموقفه. ومصلحته، على الدول الكبرى الحليفة له. وحتى روسيا الشيوعية تم رسم خط أميركي أحمر لا تتجاوزه، بعد هيمنتها العسكرية والآيديولوجية على أوروبا الشرقية.


وإذا كان القرن التاسع عشر إنجليزيًا، فقد كان القرن العشرون أميركيًا. وعندما كان السوري الماروني بطرس بيك ديب يدعو موارنة لبنان إلى عدم الانفكاك عن فرنسا «الأم الحنون» منذ الصليبي لويس التاسع (أسره المصريون وقتلوا 30 ألفًا من جنوده في دلتا النيل)، كان العروبي السوري عبد الرحمن الشهبندر الواعي لحركة التاريخ يطالب بانتداب أميركي على سوريا، بدلاً من الانتداب الأوروبي (1922).


لم تنس أميركا خداع أوروبا لها في مؤتمر فرساي (1919)، فقد أعادت فرنسا وبريطانيا توزيع الأدوار في المنطقة العربية، فاقتسمتا «أملاك» الإمبراطورية العثمانية المهزومة مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. كان الانتقام الأميركي حادًا جدًا. فقد ساهمت بتصفية الاستعمار الأوروبي في المغرب والمشرق، بعد الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي منعت بالقوة روسيا من الوصول إلى مياه الخليج الدافئة، مستعينة بـ«الجهادية الإسلامية العربية»، لطردها من أفغانستان.


أستطيع أن أقدم أمثلة كثيرة على احتكار أميركا الدور الدولي في المنطقة العربية والشرق الأوسط. كان استقلال سوريا ولبنان في الأربعينات إنجليزيًا. فقد ردع ونستون تشرشل (الحليف الأوروبي الأمين لأميركا في الحرب والسلم) الجنرال ديغول عندما تلكأ في الانسحاب من هذين البلدين، مطالبًا بامتيازات عسكرية واقتصادية فيهما.


في احتكارها للسياسة العربية، لم تكن أميركا دائمًا ملاكًا. فقد صنعت انقلابين عسكريين في سوريا (حسني الزعيم وأديب الشيشكلي)، عقابًا لنظام شكري القوتلي الذي حاول تجديد ولايته الرئاسية بقلب نتائج الانتخابات التشريعية (1947). ثم كانت محطة الـ«سي آي إيه» في السفارة الأميركية بدمشق، على علم مسبق، بتخطيط الحزب السوري القومي (الفاشي) لاغتيال العقيد عدنان المالكي نائب رئيس أركان الجيش السوري، ورجل الزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني (1955).


ولا أنال من قدر وعروبة جمال عبد الناصر عندما أقول إن أميركا كانت على «علم وخبر» مسبقين بالثورة الناصرية (1952). ثم دعمته في مفاوضاته مع الإنجليز. فنجح في إجلائهم عن مصر. وعندما حاولت بريطانيا وفرنسا قلب عبد الناصر والعودة إلى المنطقة، مستعينتين بالـ«بودل» الإسرائيلي (1956)، كان غضب الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور عارمًا. وأجبر «المتآمرين» الثلاثة على الانسحاب من مصر، بما في ذلك قناة السويس.


جاء الدور على عبد الناصر عندما أقدمت أميركا على تصفية وإقصاء زعماء حركة عدم الانحياز «المنحازة» إلى روسيا والصين في الحرب الباردة (سوكارنو. نكروما. موديبوكيتا...). أخطأ عبد الناصر بعدائه الآيديولوجي للخليج. وبتحويل حزبه (الاتحاد القومي)، بعد سقوط الوحدة المصرية/ السورية، إلى حزب (الاتحاد الاشتراكي)، فخنق الاقتصاد المصري. وكان الـ«بودل» الإسرائيلي الأداة العسكرية الأميركية، لتقويض المشروع القومي العربي، واحتلال سيناء والضفة الشرقية من قناة السويس (1967).


بعد الاغتيال السياسي لعبد الناصر في حرب النكسة، وموته المبكر (1970)، وهو يحاول إنهاء الحرب الأردنية الفلسطينية، أعادت أميركا توزيع أدوار النجوم الخمسة للنظام الجمهوري الذي ساهمت، بشكل وآخر، في تشكيله على مفصل سبعينات القرن الماضي.


هذه النجوم حسب الترتيب الزمني لظهورها (صدام. السادات. الأسد. نميري. القذافي) رفعت الشعارات القومية الناصرية لخداع شارعها الشعبي. ثم ما لبثت أن تأسلمت أو تطيَّفت، برضا أميركي. ثم ما لبثت أميركا أن تبنَّت قراءة «الإخوان» لمفكرهم الوحيد سيد قطب الذي تبنى مفهوم الإسلام الباكستاني المتزمت. فابتكرت مفهوم الإسلام الحربي الطالباني والأفغاني. وحاربت به «الكفار» الروس الحمر الذين غزوا أفغانستان مقتربين من مياه الخليج الدافئة.


وهكذا كان تسييس الإسلام وعسكرته كارثة على العرب وأميركا. نجح النظام العربي في تقويض المفهوم الأفغاني والطالباني للإسلام. لكنه يعاني اليوم بالشراكة مع أميركا، من مفهوم أكثر عنفا للإسلام: المفهوم القاعدي والداعشي.


في المنطق الطائفي، خسرت أميركا في حروبها الشعواء ضد السنة الأفغانية والباكستانية، وضد الإسلام الصدّامي، سمعتها لدى العرب، وخصوصًا تسليمها العراق إلى عملاء إيران التي شجعتهم على تغييب الهوية العربية لبلدهم. وأخيرًا، فقدت إدارة أوباما ثقة العرب، عندما رفضت تأديب بشار الكيماوي. وعندما حاولت فرض مفهوم الإسلام «الإخواني» على مصر وتونس.


ما الذي يحدث اليوم في المشرق العربي بعد التورط الروسي في سوريا؟ جرى فرز عام للقوى الإقليمية. والدولية. والعربية المتورطة في النزاع. أعيد توزيع الأدوار بين هذه القوى. وها هي أميركا تسلم بالدور الروسي «الريادي» في سوريا، فيما روسيا تسلم بالدور الأميركي في العراق.
&

لم أعثر في فقه القانون الدولي على بحوث مستفيضة في فن توزيع الأدوار بين الدول. إنما أجد أن غرض هذا الفن السياسي/ الدبلوماسي تجنب الصدام العسكري أو الأهلي بينها. وهو لا يعني وفاقًا مطلقًا ودائمًا. فما زال هناك خلاف أميركي/ روسي، على المصير السياسي الشخصي لبشار. لكن الخلاف أجّل ريثما يتم تمرير «جمل» المفاوضات بين المعارضة والنظام من «إبرة» الأمل الضئيل بنجاحها.


كذلك تم اختصار الدور الإيراني، لعجزه عن الحسم العسكري في سوريا. أما «البهدلة» فقد كانت من نصيب «حزب الله» في توزيع الأدوار. فقد أعلن زعيمه أنه «يحتفظ» بحق الرد - إلى متى لست أدري – على الغارة الإسرائيلية التي قتلت عميله الدرزي سمير القنطار في بلدة جرمانا الدرزية/ المسيحية المجاورة لدمشق التي كان من خلالها يشارك - مع الأسف – في ذبح السوريين.


توزيع الأدوار تسبب أيضًا بتفاقم الخلاف بين أميركا والسعودية المصرة على ترحيل الأسد نظامًا وشخصًا، ومنع إيران من الاستمرار في استغلال الحوثيين في اليمن ضد أمن واستقرار النظام العربي الخليجي. الواقع أن أميركا أوباما تجد صعوبة في التنسيق مع إيران وعرب الخليج، بعد «التفاهم» النووي. وقد أحبطت إيران محاولة سعودية لتمكين لبنان من انتخاب رئيس جديد ينتمي لمعسكر «حزب الله». لكنه ليس ميشال عون مرشح إيران.
تركيا كإيران تأثر دورها في سوريا الداعم للتنظيمات الدينية «المعتدلة». ولعدم قدرتها على الحسم مع أكراد سوريا وتركيا الذين أقاموا دويلة مستقلة على الأراضي السورية المجاورة لحدودها. وهم يطردون العرب السوريين منها! هؤلاء يتمتعون أيضًا بدعم روسي مضاف إلى الدعم الأميركي! بوتين يسعى إلى إظهار فشل تركيا العسكري، أمام التحالف الإسلامي الجديد الذي أقامته مع قطر والسعودية.


حققت أميركا أوباما نصرًا سياسيًا وعسكريًا، بإدارتها لحرب «تحرير» مدينة الرمادي العراقية من «داعش». وهو أيضًا نصر معنوي لحيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية. أوباما والعبادي عرفا كيف يتجاوزان الضغط الإيراني عليهما، لإشراك الميليشيات الشيعية العراقية التي يقودها ضباط إيرانيون في المعركة. ولعل العبادي يستكمل «نصره» بإنصاف العشائر العربية (السنية) التي سلحها ودربها الأميركيون. وكان دورها في المعركة عاملا كبيرا في حسمها. يبقى على العبادي أن يشرك السنة في صنع القرار السياسي، إذا ما أراد صيانة وحدة التراب العراقي، ونجاحًا مماثلاً في تحرير مدينتي الفلوجة والموصل من «الداعشية»، فيما تتعثر روسيا والنظام السوري في «تحرير» المنطقة السورية الشرقية.
&