محمد المزيني

يبدو أن إيران، ومن خلفها ملالي طهران، لا تزال تجيد مهارة الألعاب النارية، وتفضلها على تمرير العقل والمنطق في كل قراراتها السياسية.

&

الشيء المختلف أن تقنيات هذه الألعاب وأشكالها -سياسياً- قد تطور وأخذ أشكالاً وألوناً مختلفةً ومتنوعةً، بينما إيران التي انطلقت فعاليات ألعابها مع وقوفها بندية ديماغوجية في موقف نِدِّي مضحك وفج للولايات المتحدة، انساق خلفها قطيع الخراف الغوغائية، بلا أي تمييز أو وعي للفروقات الحضارية الشاسعة، التي لا يمكن بحال من الأحوال وجود أدنى مقارنة تذكر قد تصب في مصلحة الخميني ومن أتى بعده.

&

لم تستطع إيران وملاليها الخلاص من تبعات خسائرها الكبيرة التي منيت بها في العراق إبان الحرب الإيرانية-العراقية، أو ما سُمِّي «حرب الخليج الأولى»، وظلت تعمل حثيثاً على مسح لوثة عار الهزيمة التي لحقت بهيبتها أمام مناصريها من شيعة العالم، وأخصهم شيعة العراق وبعض شيعة الخليج الخونة الموالين لهم، ولنا أن نتصور تلك الكارثة التي ستحدث فيما لو خرجت إيران منتصرة في تلك الحرب! لنا أن نتخيل ماذا سيؤول إليه واقع الخليج العربي برمته! ذاك الجرح لم يلتئم في قلوب ملالي طهران، والانتصار الذي أخرجها من المعركة باستسلام صاغر.

&

لذلك ظلت المملكة هدفها الثاني بعد العراق، الذي سقط أخيراً بأيدي حزب الدعوة الشيعي، الذراع الأقوى لها في الخليج، تلك الأيدي الملوثة بدماء أبرياء، نجحت إيران بتثبيت قواعدها، معتمدة في ذلك على المؤامرات والدسائس، وتحريك شيعتها الموالين.

&

علمتها حربها الخاسرة مع صدام التي دامت نحو ثماني سنوات، وخلفت خسائر فادحة، أن تعمل وتجند وتحرك وتفاوض وتقايض على نار هادئة -شريطة ألا تشتعل النار في ديارها المحفوفة- بجيش وجهاز مخابراتي استطاع التغلغل في الجسد الخليجي سياسياً واقتصادياً، فهي تعمل بطرق مواربة، مبنية على قواعد دينية برجماتية، استطاعت بها زرع الضغينة والأحقاد في قلوب خونة الخليج الموالين لها، في حين أنها تعمل باتجاه آخر أكثر ديبلوماسية ومماحكة مع الدول الغربية، التي انفتحت على إيران اللاهثة إلى إحراز تقدم يذكر مع الشيطان الأكبر، التي فرضت عليها حظراً تجارياً كاملاً منذ عام 1995، ولم تكن لتحصل على قبول يذكر لو لم تتجه سياسة أوباما الأخيرة إلى فتح باب المفاوضات مع إيران، اللاعبة بشكل كبير معها على أرض الخليج العربي، الذي لم يجد حيلة تقنع مجلس الشيوخ للمضي في سياسته التفاوضية معها إلا بالتلويح بما يشبه التخويف بحرب مرتقبة في الخليج، معيداً إلى أذهانهم ذاكرة حرب الخليج الأولى فيما لو أصر المجلس على قراره الرافض لدخولها نادي الدول النووية التي يحسب لها ألف حساب.

&

أميركا لا تستبعد -حقيقةً وواقعاً- فكرة التخطيط لحرب خليجية ثالثة، تحت ذريعة تعقد العلاقات الإيرانية-الخليجية، وتحت ذريعة الاقتصاد. ولها في ذلك طريقان أحدهما: استقطاب الفقراء والمحتاجين بما يشبه الشراء، وليس أمام الجائع المضطر سوى الإذعان. ثانيهما: التسلل إلى عمق البناء الاقتصادي الخليجي من خلال ممثلين لهم يمكِّنونهم من السيطرة على أجزاء من المكون الاقتصادي الخليجي، من خلال شراء أصول حقيقية تسمح بها الأنظمة الاقتصادية التي لا ترى أو لا تريد أن ترى الجانب السياسي الخفي أو حتى من يعمل خلفها. وعلى دول الخليج التحقق من هوية المستثمرين لديها وتتبع خيوطها حتى تصل إلى المستثمرين الحقيقيين لها، وأين تذهب عوائدها المالية وكيف تصرف؟ ونحن نعلم جيداً أن بعض الاستثمارات في عدد من دول الخليج تعود إلى إيرانيين بالهوية أو الانتماء!

&

ولضمان كيف يمكن لإيران اختبار مدى مشروعها الرامي إلى تجنيد شيعة الخليج العربي، من أجل تثوير المنطقة برمتها، وسحبها إلى أتون حروب أهلية داخلية؛ تمونها وتدفع بحفنة جنود يقاتلون إلى صفوف أنصارها تطلق عليهم أسماء مختلفة تقوم بما يشبه الألعاب النارية بافتعال الفتن الطائفية، وتثوير مواطني الدول الأخرى ضد أنظمتهم، وهي تعرف كيف تحرك غوغائييها بإيقاد جذوة القيم الطائفية المشحونة بالكراهية للآخر، كما فعلت في سورية ولبنان واليمن ونجحت في تأسيس قاعدة لها، وكما تحاول جاهدة أن تفعل المثل في دول الخليج العربي وباءت بالفشل الذريع.

&

تستخدم من أجل تحقيق ذلك الخطب الرنانة أحياناً، ومن أبواب سرية تمرر أجندتها من خلال عدد من القادة العملاء الذين تمت صياغتهم في قم وفق أنموذجها الثوري، إذ يركب هؤلاء نيابة عنها ظهور السذج من الطائفة الشيعية وسوقهم كالأغنام إلى حتفهم المؤكد؛ لأن الدول لن تقبل مهما بلغ الأمر بوجود أمثال هؤلاء الخونة الممثلين لأطماعها، فما يمكن أن يحدث في دول هشة لا يمكن أن يحدث في دول متماسكة ومترابطة كدول الخليج.

&

وقد جاء «الربيع العربي» مكسباً استثمارياً عظيماً، إذ حقق لها دخول أتون هذه الفوضى عبر بوابة واسعة مشمولة بذرائع شتى، أهمها حماية مصالحها وحلفائها وشيعتها، وعند هذه الأخيرة تنكشف السياسة الإيرانية الفجة في تعاملها مع من تسميهم شيعتها، ففي الوقت تنتفض فيه وتندد وتحرق وتدمر فقط؛ من أجل تنفيذ حكم شرعي عادل صدر من أعلى جهة قضائية مستقلة في السعودية بحق رجل واحد، نراها تعلق شباب السنة الأحوازيين على المشانق في الميادين العامة من دون محاكمات عادلة، ومع ألم كل مسلم لهذه الجرائم التمييزية التي ترتكبها إيران ضد سنتها، لم تنتفض السعودية ولم تؤلب السنة عليهم، ولم تحرق سفارتها إيماناً منها بأن هذا شأن داخلي لا يجب التدخل فيه إلا من خلال المنظمات العالمية المعنية بحقوق الإنسان.

&

رأينا كيف قدمت إيران مسرحيتها الهزلية الفجة يوم دفعت بدهمائها لإحراق الســـفارة والقنصليـــة السعوديتين، فقط كي تثبت أنها تقف إلى جانب شيعتها الموالين الخونة في الخليج، والحقيقة هي أن إيران لا يهمها مشاعر الشيعة المغفلين؛ فكل ما في الأمر لا يعدو سوى لعب سياسي قذر، تتماهى به كلما أرادت أن تعزز وجودها وقوتها ومكانتها في سدة حكم إيران، تحت مظلة ولاية الفقيه، وإشغال السذج بألعابها النارية، ولكن العتب كل العتب يقع على بعض دول الخليج التي تفسح المجال كاملاً على مصراعيه للإيرانيين بالهوية أو الولاء للتحكم في اقتصادها، ونحن نعلم علم اليقين أن إيران لم يعد لديها منافذ اقتصادية تمكنها من عيش كريم، وموارد أموال تمكن نظامها الفاشي من سدة الحكم سوى دول الخليج، فلو سدت كل الثغرات الاقتصادية أمامها، ومنعت أدنى تداول لها في سوقها، لاستشعر الشعب الإيراني خطورة المستجد، ولانتفض على أصنامهم التي صنعوها بأيديهم واستعبدتهم ردحا طويلا من الزمن.

&

فهل ستستدرك دول الخليج ما فاتها وتنقذ نفسها من براثن المد الصفوي، أم أنها ستستسلم حتى يغرقها الطوفان؟
&