محمد الرميحي

تدخل المعارضة السورية والنظام السوري إلى «بيت الطاعة» مجبرين، على أساس أن كل طرف سوف يقدم ذرائعه الجديدة لإتمام صفقة الطلاق، وتقسيم الممتلكات. واهم من يعتقد أن سوريا سوف تنتهي، بعد كل ما حدث ودفعت أثمانه بالدم والدمار، إلى ظهور «دولة سورية مدنية جديدة وعادلة على كل التراب السوري»، لديّ شكوك عميقة في الوصول إلى تلك النتيجة، ليس لأن النيات مبيتة، أو الخطط مبهمة فقط، ولكن أيضًا بسبب عوامل تراكمية على مر العقود الأخيرة نتج عنها ممارسات وتداعيات داخلية وتدخلات خارجية، أصبح تأثيرها السلبي التفكيكي غير المُعطل يفعل فعله. وقد رافق تلك الممارسات والتدخلات قصور شنيع في إدارة الدولة الحديثة.

فسوريا المنتظرة إما أنها ستكون ثلاث دول مبنية على خلفيات عرقية/ طائفية، أو بالحد الأدنى كانتونات ملتصقة بعضها ببعض برباط هش، قد يتحلل ذلك الرباط في وقت قادم من الزمن. سوريا ليست استثناء، كل الدول التي ضربتها عاصفة «المنخفض الربيعي» مرشحة لأن تصل إلى ذلك المكان، نحن الآن في مرحلة بين مرحلتين، لا أكثر ولا أقل. العراق في نهاية الأمر لن يعود إلى ما كان عليه، المؤشرات واضحة لمن يريد أن يراها، فهناك أيضًا ثلاث، وربما أكثر، من الدول أو الكانتونات تتشكل على الأرض العراقية سابقًا، أيضًا على خلفيات عرقية/ مذهبية، لبنان هو الآخر مرشح للوصول إلى تلك النتيجة وأيضًا بمؤشراتها الواضحة، فسوف يبقى الشغور الرئاسي في لبنان متعودًا عليه، حتى يتآكل طبيعيًا بفعل عوامل التعرية السياسية الحاصلة، ويأخذ التعاطي اللبناني السياسي المتدهور البلاد في الحد الأفضل، إلى نوع من الكانتونات المذهبية التي قد تتعدى الأربعة أو الخمسة، يعتمد على وقت ومن يحضر القسمة. ليبيا ليست استثناء من ذلك، ربما أيضًا على خلفية ثقافية، بين طرابلس ذات الخلفية المختلفة وبنغازي! اليمن ليس بعيدًا عن ذلك المسار، لأسباب ليست بعيدة عن الأسباب الخاصة بالدول الأخرى، وتصب في نفس المصب، ثلاثة أو أكثر من الكانتونات اليمنية. من يعتقد أن هذا السيناريو ضارب في الخيال أو متشائم، عليه أن يراجع نفسه، فهو نفس الموقف الذي اعتقد منذ سنوات قلائل مضت أن انقسام السودان خيال، حتى صحا من الغفلة، واضطر أن يرسل سفيرين «إلى السودان» بدلا من سفير واحد!!
المأساة في هذا السيناريو أنه غير قابل للتراجع أو الوقوف عن التدحرج إلى الأسفل، ليس بسبب النيات مرة أخرى، ولكن لأن الأسباب التي قادت إليه أصبحت خلفنا، لها ديناميات دفع، ولا يستطيع أحد أن يتحكم في تدحرجها، وهي أسباب فعلت فعلها كما تفعل البكتيريا في جسم الإنسان، عندما تظهر نتائجها المرضية، يكون الوقت قد فات لوقف عملها.
من ضمن الأسباب أربعة رئيسية:
أولا: السياسة التي اتبعتها الأنظمة لم تكن باتجاه بناء دولة، على سبيل المثال اعتمد البعث في كل من العراق وسوريا على «عائلة» لها امتدادات أو خلقت لها امتدادات «قبلية/ طائفية» حاولت جاهدة أن تغطي تلك الامتدادات بالكثير من الشعارات والاستعانة بأشخاص من خارج المجموعة في بعض مفاصل الدولة، ولكن مشروع الحكم (وليس الدولة) كان قائمًا على إقصاء أمني للآخر، أي آخر كان، وتقريب مصلحي للقريب أو الموافق على الاستحواذ بتنفيعه بقليل من الفتات. الدولة بمعناها الحديث لم تكن موجودة في ذهن الحاكم ولم يفكر فيها على الإطلاق. كتاب يوسف ساسون الذي صدر أخيرًا عن «بعث صدام.. رؤية من داخل نظام استبدادي» له العجب، وهو كتاب لم يتكئ على تحليلات نظرية، أو مواقف آيديولوجية، بل توفر الكاتب على دراسة مليونين أو أكثر من الوثائق التي أخذتها القوات الأميركية من مصادرها الطبيعية إلى واشنطن، وقام الكاتب بدراسة مضمونها، وقد أخذت من «فروع حزب البعث ومقراته الأمنية»، ومن يقرأ الكتاب بتمعن لا يستغرب أبدا «ظهور (داعش)».

في التفاصيل اليومية تحول الإنسان العراقي إلى أقل بكثير من آلة صماء خائفة مرتعبة، ليس من السلطة فقط، بل من الجار والابن. لقد تحولت شرائح واسعة من الشعب إلى «مخبرين» في مقابل «رؤوس الغدر والفتنة»، فهم أعداء، وجب التخلص منهم، وتحول الزعيم الذي اختصر الجميع في نفسه إلى أسطورة، ليست الصورة تلك ببعيدة عن دمشق، فالشعار الذي يربط الأسد بالأبد، هو الذي حول السوري إما إلى معارض مكتوم الصوت، أو موال ينتمي إلى القلة، حتى أصبحت السجون الرسمية وغير الرسمية التي تضخ إليها الأجساد من أكثر من تسعة أقلام مخابرات، ليس لها المقدرة على الاستيعاب.


ثانيا: العوامل الخارجية التي لعبت دورًا مهيئًا لاستتباب القمع وسيادة «القائد الفذ»، فقد كان للغرب في الكثير من الأحيان سياسة انتهازية من خلال الإشاحة بالوجه عن ممارسات تلك الأنظمة، وخاصة قياداتها تجاه شعوبها، بل مارس الغرب نوعًا من التشجيع لسخف تصرفات بعضها. لعل الصورة التي يظهر فيها رئيس وزراء إيطاليا وهو يقبل يد معمر القذافي سوف تقزز «الحضارة الغربية» إلى أمد طويل، وسوف يتوقف المؤرخون لدراسة السماح لخيمة القذافي في العواصم الغربية مع حارساته منصوبة على قارعة الطريق، ذلك فعل يشيع بالانتهازية، من أجل حفنة من الدولارات تكسبها شركاتها، عدا التعاون على ترحيل المعارضين وكسر شوكتهم حتى عند الصدع الكلامي بما يرونه من اختراقات لأقل الحقوق الإنسانية. هذا الغرب ما زال يفعل ذلك إلى اليوم، وما إصرار موسكو أن تكون مناصرة للأسد، وفي نفس الوقت «تطعم المعارضة» بوفد منها، إلا احتقار لكل الثوابت المقنعة للإنسان السوي أو القانون الدولي، لو ترك الأمر لموسكو أن تفاوض نفسها لكان أفضل وأكثر كرامة!
ثالثا: في كل ما نراه من دول «المنخفض الربيعي» غياب مشروع الدولة وسيادة مشروع الزعيم، الآمر الناهي في عصر مهما كانت قدرات الفرد ومواهبه فذة فهو قاصر بالضرورة عن إدارة دولة عصرية، فتأتي القرارات عشوائية معتمدة على الهوى، لا الحقائق، وتأخذ المجتمع إلى الهاوية.


لقد حرم المجتمع من الأكسجين الذي يساعده على التنفس، وهو في الحالة تلك المجتمع المدني والمؤسسات، واستعيض عن الإقناع بالقمع، ولما أصبح الأمر لا يطاق توجه الجميع إلى الهويات الصغرى، كان ذلك نتيجة طبيعية لغياب مشروع الدولة.


رابعا: أصبح مشروع النظام الأوحد هو الحفاظ على بقائه، حتى عادت، كما تقول الوثائق «تصفية أعداء النظام» مقدمة كثيرًا على القبض على اللصوص، فما بالك بالتنمية؟
قلت إن تلك العناصر المتداخلة قد فعلت فعلها، وليس أمام أحد أن يعيد الساعة إلى الوراء، نحن الآن في وقت إما الاعتراف بأن كل تلك العناصر تقود إلى النتائج التي تولد أمام أعيننا، وبالتالي محاولة «إنقاذ ما يمكن إنقاذه»، أو تجاهل فعل تلك العناصر كما فعل كثيرون، على أنها غير موجودة، بالتالي أن تقوم بإكمال مهماتها التي تتلخص في وجود فضاء جديد في منطقتنا لا يشبه الفضاء الذي رسم في المائة سنة الأخيرة.


آخر الكلام:
رحم الله الشيخ الشاعر إبراهيم اليازجي، الذي ألقى قصيدة في اجتماع سري لجمعية تنادي بدولة عربية واحدة في عام 1868 (قبل نحو 150 عاما):
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب!
- ما أتعس اليوم بالبارحة!!
&