فهد إبراهيم الشثري&

عقد منتدى دافوس الذي يضم نخبة من أهم صناع القرار في العالم – سواء من القطاع العام أو الخاص ـــ الأسبوع الماضي، في ظل حالة من الضبابية والتشاؤم بشأن الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي. حيث كانت جميع المستجدات على الجانبين الاقتصادي والسياسي سلبية. فمن ناحية، افتتحت الأسواق المالية العالمية هذا العام ببداية سلبية انطلقت من الأسواق المالية في الصين وانتقلت تأثيراتها إلى جميع الأسواق العالمية. كذلك، أسعار النفط انخفضت إلى معدلات قياسية لم تشهدها منذ أكثر من عقد من الزمن. وهذا بدوره أثار تساؤلات في أوساط الكثير من الاقتصاديين حول مستقبل ومسار السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. وعلى الجانب السياسي فإن الاضطرابات في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، والتوتر في منطقة بحر الصين تلقي بظلالها على الرؤية بشأن الاستقرار السياسي وعلى مستقبل الاستقرار السياسي في عدد من مناطق العالم. كما كان لتزايد وتيرة إرهاب "داعش" وانتقال تأثيره إلى عدد من دول العالم نصيبه من المناقشات بخصوص الأمن والسلم العالمي. أضف إلى ذلك قضية المهاجرين في أوروبا التي أدت إلى انقسام بين قادة الدول الأوروبية حول كيفية التعامل معها في ظل قوانين الهجرة الأوروبية، وعدم استعداد بعض الدول لاستقبال المهاجرين. وهو ما أدى إلى تراجع على مستوى التكامل السياسي بين الدول الأعضاء في منطقة الشنجن، حيث إن هناك مطالبات بإيقاف العمل بالاتفاقية لمدة عامين إلى حين التعامل مع هذه القضية. وأخيرا، تزايد وتيرة التطرف السياسي، حيث انشغل الحاضرون بمناقشة ظاهرة مرشح الرئاسة الأمريكية دونالد ترمب، وبروز اليمينية المتطرفة ماري لوبين على الساحة السياسية الفرنسية.&

لكن هذه الظروف السلبية غير العادية لمنتدى دافوس لم تمنع المجتمعين من استشراف المستقبل وما يمكنه أن يخبئه من مفاجآت خصوصا على الجانب الاقتصادي. فقد كان الموضوع الرئيس لمنتدى دافوس هذا العام (الثورة الصناعية الرابعة)، التي تتضمن ثورة في أتمتة عمليات الإنتاج والتقنية المتقدمة التي ستؤدي إلى تحول كبير في الاقتصاد العالمي. حيث كان السؤال الكبير الذي دارت حوله المناقشات في "دافوس" هذا العام: هل نحن على أبواب ثورة صناعية رابعة؟ وهو الذي اتفق عليه كثير من المشاركين، لكن ما لم يتفق عليه هو كيف ستؤثر هذه الثورة الصناعية الرابعة في حياة الإنسان؟ هل ستؤدي إلى تحسين حياة الإنسان، انتقاله إلى مستوى معيشي أفضل، أم ستؤدي إلى العكس؟ كيف ستؤثر زيادة الاعتماد على الآلة التي هي محور الثورة الصناعية الرابعة في الإنسان كعنصر من عناصر الإنتاج؟ كيف سيؤثر ذلك في توزيع الدخل بين العمل ورأس المال؟ وكيف ستتصرف الحكومات التي تسعى إلى موازنة هدف اللحاق بركب هذه الموجة لتحقيق النمو الاقتصادي وبيان أثرها الاجتماعي السلبي في الأفراد؟ وأخيرا من هو المستفيد الأكبر من هذه الثورة: هل هي الدول المتقدمة التي تقود العالم حاليا في هذا المجال، أم سيكون للاقتصادات الصاعدة موطئ قدم قد يؤدي إلى سحب بساط التفوق الاقتصادي والسياسي أيضا من الدول المتقدمة؟ المنتدى هذا العام يطرح أسئلة أكثر من إجابات، لكنه يدفع الحاضرين والمتابعين إلى التفكير في هذه الأسئلة عند اتخاذ قراراتهم بشأن المستقبل. بمعنى آخر، المنتدى هو فرصة لتغذية الرؤية بشأن المستقبل، والمستفيد من يترجم هذه الرؤية إلى واقع إيجابي سواء في السياسة العامة التي يقود عملية تصميمها، أو في سياسات الشركة التي يعمل بها لتقتنص الفرصة وتتقدم على سلم النمو.

وبالعودة إلى الوراء قليلا، نتذكر أن الثورة الصناعية التي أسهمت في تحسين حياة الإنسان بشكل كبير جدا خلال القرنين الأخيرين، أسهمت في تعزيزها اختراعات أدت إلى ثورة في طرق الإنتاج. من هذه الاختراعات مثلا طاقة البخار، التي أدت إلى ثورة في عالم النقل، واكتشاف النفط الذي أسهم في تعزيز ذلك ليسهل عملية الانتقال بشكل أسرع. كذلك الكهرباء التي أسهمت في تغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك بين الناس. واليوم يرى كثيرون ـــ ويختلف معهم البعض ـــ أن الثورة المقبلة ستركز على تعزيز لعنصر الأتمتة في عملية الإنتاج وتقديم الخدمات، من خلال الاستخدام المتزايد للروبوت في عمليات الصناعة مثلا، واستخدام السيارة بدون سائق، التي ستحدث نقلة في عملية النقل. على الجانب المالي يرى البعض أن تزايد دور العملات الافتراضية، والخدمات المالية عبر شبكة الإنترنت سيؤدي إلى ثورة في القطاع المالي وسيغير نمط السياسات النقدية والمالية التي تعتمد عليها الدول حاليا. والجانب الأكثر أهمية من حيث تأثير هذه الثورة الصناعية الرابعة، هو الإنتاج المعتمد بشكل أكبر على الآلة. لكن على الرغم من التفاؤل بهذا الاتجاه الجديد الذي سيؤدي إلى تغيير وجهة الاقتصاد العالمي، فإن هناك أيضا مخاوف مما يمكن أن تؤدي إليه هذه الثورة من آثار سلبية. حيث عبر عدد من المشاركين في "دافوس" هذا العام ومن ضمنهم رئيس الوزراء الكندي الشاب، ونائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن مخاوف من تأثير هذه الثورة - التي هي على أبواب انطلاقتها قريبا ـــ في التوظف، حيث يتوقع أن تؤدي هذه الثورة إلى زيادة الاعتماد على الآلة ـــ كما أشرت ـــ على حساب الإنسان، وبالتالي يقدر أن تؤدي إلى خسارة ملايين الوظائف. وهذا بدوره سيؤدي إلى مفاقمة تفاوت الدخل بين المجتمعات وبين الدول، ومن ثم قد تؤدي إلى حرمان الكثيرين من فرص الارتقاء المجتمعي Inequality، وما سيتبعه من زيادة المخاطر بشأن الأمن والاستقرار الاجتماعي في الدول.&

لذلك، فإن المنتدى يستشرف المستقبل من خلال التقنية التي يرى أنها ستغير نمط حياة الإنسان والمجتمع بشكل كبير خلال الفترة المقبلة. ونلاحظ أن جزءا كبيرا من هذا التغيير حدث خلال العقدين الماضيين من خلال ظهور الإنترنت وظهور الهاتف الكفي كمعزز لاستخدام الإنترنت بشكل مستمر في حياة الإنسان. لكن صناع القرار في "دافوس" يرون تأثيرا أبعد بكثير مما حصل خلال العقدين السابقين قد يؤدي إلى ما يسمونه (الثورة الصناعية الجديدة) أو كما يطلق عليه (عصر الآلة).