بعد خمس سنوات من الثورة: غياب العدالة الاجتماعية ما زال «قنبلة موقوتة» في مصر تنتظر من يفككها
&بعد خمس سنوات من ثورة يناير في مصر، قد لا يكون من المبالغة القول ان قليلا قد تغير فيما يتعلق بمنهجية التعامل مع مفهوم العدالة الاجتماعية الذي كان حاضرا بقوة سواء في أسباب اندلاع الثورة أو ضمن أهدافها المعروفة. بل ان المواطنين الذين أطلقوا اسم (خساير) على الثورة بدلا من يناير محقون من الناحية الموضوعية، من حيث ان حالة التدهور الاقتصادي في أعقاب الثورة، والذي تتحمل مسؤوليته الإدارات السياسية المتعاقبة وليس الثورة في حد ذاتها، أسهمت في تفاقم الحالة المعيشية للغالبية المسحوقة أصلا بدلا من ان تساعد في تحسين أوضاعهم كما كان مأمولا عندما خرج الملايين إلى الشوارع يطالبون بالعيش بمعنى العيش الكريم وليس الخبز فقط.
وإذا كان تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2007 أكد أن هناك 14 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، بينهم أربعة ملايين لا يجدون قوت يومهم، وأن نسبة من يعيشون على دولار واحد يومياً بلغت 3.1٪ من السكان، كما أكدت دراسة لمعهد التخطيط القومي أن أكثر من 16٪ من السكان يعيشون تحت خط الفقر. فان الأوضاع اليوم اسوأ على أي مقياس، إذ تقول الحكومة ان نسبة من يعيشون تحت خط الفقر وصلت إلى 26 ٪ بما يعادل 23 مليون مواطن، وان كانت مصادر أخرى متطابقة تؤكد ان النسبة وصلت إلى 42٪ ما يعادل 37 مليون مواطن. وخسر الاحتياطي النقدي عشرين مليار دولار، حيث هبط من 36 مليار دولار قبل الثورة إلى نحو 16 مليارا فقط الشهر الماضي وهو الحد الأدنى الذي يمكن الحكومة من توفير السلع الغذائية.
وقد أدى تراكم عجز الموازنة العامة العام الماضي إلى إرتفاع حجم الدين العام المحلي إلى 1700 مليار جنيه ما يمثل أكثر من 90٪ من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي وبلغت فوائد هذا الدين الداخلي حوالي 182 مليار جنيه يمثل ربع حجم الإنفاق.
ومن الناحية السياسية لا يجد كثير من المواطنين فارقا كبيرا في تعامل الحكومة مع هذه الأزمة الاقتصادية المتفاقمة مما كانت عليه قبل الثورة. وبنظرة سريعة نجد ان حكومة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك كانت رفعت شعار الأولوية لمحدودي الدخل، ومعها رفع الحزب الوطني شعار (وعدنا .. فأوفينا)، وخرج وزير التنمية الاقتصادية حينها ليصرح بأن «المواطن المصري بإمكانه أن يعيش على 150 قرشاً في اليوم»، في دليل واضح على انفصال الحكومة عن الواقع الذي يعيشه الناس، وعدم ادراكها للأزمات التي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم.
وقد أدى ذلك إلى تزايد مطرد في مظاهر الاحتجاج والرفض والتململ الاجتماعي، كمياً ونوعياً سواء على شكل مظاهرات أو اعتصامات أو اضرابات أو تجمهر زاد عددها من 86 احتجاجاً عام 2003 إلى ما يقرب من 900 احتجاج في عام 2008.
وفي الواقع يمكن القول ان ثورة يناير نفسها، وبالتوازي مع عوامل سياسية وأمنية واجتماعية أخرى بالطبع، لم تكن سوى محصلة طبيعية لتلك الاحتجاجات.
وللاستدلال على المنهجية التي تحكم تعامل الحكومة اليوم، نجد ان وزير العدل أدلى بتصريح مشابه قبل عدة شهور قال فيه ان (المواطن يستطيع ان يعيش بجنيهين يوميا) أي ما يعادل ربع دولار. اما على الأرض فان اختلال موازين العدالة الاجتماعية آخذ في التعمق بين فئات المجتمع بسب الزيادة الواسعة في الأسعار كنتيجة طبيعية لانهيار سعر صرف الجنيه أمام الدولار من خمسة جنيهات للدولار عشية الثورة إلى أكثر من ثمانية جنيهات ونصف للدولار في السوق الموازية أو السوداء اليوم. بالإضافة إلى ذلك تستمر مشاكل عدم استقرار العمالة المؤقتة ومطالبتها بالتثبيت، وعدم تناسب الرواتب والأجور رغم زيادتها مع الأسعار.
وبينما كانت حكومة مبارك تفتح أبواب الفساد على مصراعيها للنخبة المقربة من السلطة، فقد فشلت في تقدير خطورة تلك الاحتجاجات حيث أنها في أغلبيتها احتجاجات كانت غير سياسية، وان انتشارها الواسع في نسيج المجتمع وفي مستوياته الأكثر فقراً ومعاناة.
اما الحكومة اليوم فانها تواصل تجاهل خطورة هذه الأزمة. وبالرغم من انها سعت إلى اتخاذ اجراءات تستهدف تقليل الفجوة بين الأغلبية المسحوقة والطبقة الأكثر غنى، إلا ان هناك اجماعا على انها ليست كافية، بل انها لا تقارن بالحجم الهائل للانفاق على مشروعات أخرى.
ومن هذه القرارات، تطبيق الحد الأدنى للأجور (1200 جنيه شهريا) وتطبيق الحد الأقصى (42000 جنيه شهريا)، وزيادة معاش الضمان الاجتماعي إلى 11 مليار جنيه وبالتالي زيادة عدد المستفيدين من هذا المعاش، ورفع أسعار المواد البترولية من بنزين وسولار ومازوت لتوفير 44 مليار جنيه وقد يؤدي ذلك إلى إرتفاع تكلفة نقل الركاب إلى 10٪ على الأقل من وجهة نظر الحكومة، رفع أسعار الكهرباء لتوفير 27 مليار جنيه مع تطبيق نظام الشرائح المتعددة أي أن سعر الكيلو وات في الشريحة العليا للإستهلاك التي يدفعها أصحاب الدخول المرتفعة أصبح 10 أمثال سعر الكيلو وات بالنسبة للفقراء.
ولا يستطيع كثير من المصريين اليوم فهم أولويات الحكومة التي تنفق مئات المليارات من الجنيهات في مشاريع مثل حفر مجرى جديد لقناة السويس أو إقامة عاصمة إدارية جديدة فيما تتفاقم أوضاع الصحة والتعليم والبطالة والاسكان بشكل مطرد دون وجود أي برنامج محدد لاصلاحها.
كما انهم لا يجدون أسبابا مقنعة للتفاؤل بحدوث تغييرات سياسية تصب في مصلحة تحقيق العدالة الاجتاعية المنشودة. ولا يعني هذا ان المجتمع سيقبل استمرار الأوضاع الحالية أو السياسة الحكومية بهذا الشأن. وقد فشلت الحكومة في تمرير قانون الخدمة المدنية الاسبوع الماضي رغم الضغوط القوية على أعضاء البرلمان، في تعبير واضح عن حجم الأزمة في الشارع المحتقن. وبالرغم من تدخل أجهزة الأمن سعيا لعرقلة تشكيل تحالف للعدالة الاجتماعية في البرلمان، فقد وقع النائب هيثم الحريري وآخرون على مذكرة تطالب الحكومة بإجراءات محددة في الاتجاه نفسه، ومنها:
- إعادة توزيع الدخل القومي على أسس عادلة بما في ذلك وضع نظام عادل للأجور يتضمن حداً أدنى يكفي لمعيشة كريمة لأسرة من أربعة أفراد لا يقل عن 1200 جنيه شهرياً، وحداً أقصى لا يتجاوز خمسة عشر ضعف الحد الأدنى، وزيادة الإنفاق في الموازنة العامة على الصحة والتعليم والإسكان وتطوير نظام التأمينات الاجتماعية ليشمل كل الفئات الضعيفة.
– خفض الإنفاق غير الضروري في الموازنة العامة مثل الإنفاق على الأمن المركزي والحرس الجمهوري والعلاقات العامة.
- زيادة الاستثمار بما يكفي لتحقيق معدلات نمو لا تقل عن 6٪ سنوياً .
- رفع المستوى المهاري للداخلين الجدد إلى سوق العمل، وإعادة النظر في سياسة التدريب لربطها بفرص العمل الجديدة وإنشاء مجلس أعلى لتنمية الموارد البشرية يشرف على هذه العملية .
- إعطاء أولوية في البرامج الاستثمارية والاجتماعية لاستئصال الفقر .
وقبل هذا كله بإمكان الحكومة تنظيم لقاءات مع ممثلي الفئات المختلفة للتعرف على مطالبهم ووضع جدول زمني بالأولويات ليطمئنوا أن مشاكلهم في طريقها للحل عبر فترة زمنية مناسبة. وهنا يطرح السؤال الذي يتصور أصحابه أنهم يوجهون به الضربة القاضية إلى أنصار العدالة الاجتماعية، من أين تأتي الموارد التي تكفي لتمويل هذه الإجراءات، والإجابة ببساطة نأتي بها من القادرين، لأن هذا المجتمع لن تستقر أوضاعه ما لم يقم الأغنياء بمسؤوليتهم الاجتماعية، ولن تكون ثرواتهم بأمان ما لم يتحقق لهذا المجتمع الاستقرار بأن يمولوا من فائض أموالهم ما يكفي لسد الاحتياجات الضرورية لأغلبية الشعب، وهناك العديد من الإجراءات التي يمكن أن تحقق هذا الغرض مثلاً:
- فرض ضريبة على الأرباح على المعاملات الرأسمالية التي لا يبذل فيها جهد مثل الاستثمار العقاري في شراء وبيع أراضي البناء وعلى المعاملات في البورصة، وفرض شرائح جديدة تصاعدية في الضريبة العامة تتجاوز العشرين في المئة لتصبح 25٪ ، 30٪ ، 35٪ ، بالنسبة للأرباح التي تتجاوز ملايين الجنيهات سنوياً .
- مراجعة اعتمادات الدعم وخاصة دعم الطاقة التي يتمتع بها القادرون.
- مراجعة عقود استخراج وتصدير البترول والغاز .
وفي النهاية يجمع الخبراء الاقتصاديون على أن المواطنين لن يشعروا بالعدالة الاجتماعية إلا عندما تمكنهم السياسات العامة للدولة من المحافظة على آدميتهم وكرامتهم، وتحقيق احتياجاتهم، والحصول على فرص متساوية دونما إقصاء أو محاباة. فالعبرة ليست برفع شعار العدالة الاجتماعية أو إدراجه في الخطاب السياسي ولا حتى بوضعه في صلب الدستور والقانون، فكل هذه الإجراءات تظل (معلقة في الهواء) ما لم تتم ترجمتها على أرض الواقع في سياسات عامة تطبقها حكومة رشيدة.
وطالما ان هذا لم يتحقق سيبقى غياب العدالة الاجتماعية «قنبلة موقوتة» تنتظر من يفككها.
التعليقات