فالح الذبياني&&

يحرص الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني على أن يقتنص كل مناسبة للتأكيد على أهمية بناء هوية وطنية قوية لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي، الذين أضحوا اليوم يتوسطون منطقة تعصف بها الفتن وتحيط بها التحديات من كل اتجاه، سياسياً، اقتصاديا، أمنياً، اجتماعياً وثقافياً أيضا.

في ندوة تعزيز الهوية الوطنية الخليجية التي أقيمت مؤخراً ودعت إليها الكويت كبار المسؤولين في منطقة الخليج العربي، سلط الأمير سلطان بن سلمان الضوء على واحدة من أخطر التحديات التي يمكن أن تمر بها منطقة الخليج، وهي ضياع هوية المواطن الخليجي، وسلخه من تاريخه العريق وحضارته وقيمه، واعتبر في ورقة عمل قدمها أن "الحروب المقبلة التي يمكن أن تشن على دول الخليج التي تعيش اليوم رخاءً اقتصادياً واستقراراً أمنياً لن تكون حروباً بمعناها وأسلحتها التقليدية، وإنما حروب هدفها عزل المواطن عن وطنه، وسلخه من هويته، وجعله يشعر أنه يعيش في بقعة نائية ليس لها ماض ولن يكون لها حاضر، يعيش في وطن طارئ على التاريخ، وطن لم يكن للحضارة الإنسانية على أرضه مكان"!!

هذا الجرس الذي تقرعه اليوم شخصية سياسية بامتياز، لها رؤية عميقة وناضجة؛ يعكس التحدي الخطير الذي يمكن أن ينفذ منه الأعداء الذين تكسرت طموحاتهم على صخور وحدة خليجنا وتماسك أبنائه طوال تاريخهم، فاتجهوا إلى إحداث اختراق من خلال حقن عقول أبناء المنطقة بأنهم يعيشون في أوطان مفرغة من الحضارة والقيم والثراء المعرفي، أوطان قامت على الرمال، أهلها حفاة، عراة، فقراء، اغتنوا بفعل تدفق آبار البترول، وليس لديهم ما يتكئون عليه من حضارة وبالتالي فهم كالقشة في مهب الريح متى ما هوت أسعار البترول فلن تقوم لهم قائمة!!

هذا الطرح المفصلي الحساس يقوله اليوم مسؤول عركته السياسة وصقلته التجارب، فهو خريج مدارس سياسية عدة، إذ عمل بشكل رئيسي مع الملك فهد بن عبد العزيز وتولى ملفات دقيقة ومفصلية، كما عمل مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز، إلى جانب أنه تلميذ مدرسة سلمان بن عبدالعزيز التي يعرفها كل أبناء المنطقة العربية، مدرسة عنوانها الاستقراء والتحليل والصرامة والرؤية والثبات.

يقول الأمير سلطان بن سلمان: "إن فصل المواطن الخليجي وحتى العربي عن هويته ومكونه الحضاري وتاريخه وأرضه الشامخة التي يقف عليها عمل مقصود لتهميش المواطن العربي وتسهيل اختراقه". ولهذا فإن على مؤسساتنا التعليمية، والثقافية، والرياضية في منطقة الخليج مسؤولية لا تقل في أهميتها عن المسؤولية الأمنية والدفاعية في النهوض بفكر الجيل الحالي تجاه أوطانه، وأهمية المحافظة عليها، وأنهم ليسوا حديثي عهد بالنعمة.. كما أنهم ليسوا طارئين على التاريخ، فهم نتاج سلاسل متعاقبة من الحضارات القوية التي نهضت وترعرعت في منطقة الجزيرة العربية، ويكفي أبناء الجزيرة العربية فخراً وشرفاً أن خاتم الأديان خرج من أرضهم، وأشرف الأنبياء ولد وعاش في هذه الأرض، وهو القائل عليه الصلاة والسلام "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وهو تأكيد واضح وجلي أن العرب كانوا على خلق رفيع، وقيم راسخة، ليست كأخلاق بعض الدول الطارئة على التاريخ والحضارة.

واقع الحال يقول إن قادة منطقة الخليج مؤمنون بأهمية الهوية الوطنية وترسيخها لأنها الحصن الحصين بعد الله في حماية الأجيال المقبلة من فقدان هويتهم وقيمتهم واندثار حضارتهم، هؤلاء القادة يؤكدون دوماً أن مهمة المحافظة على أوطاننا لا تنحصر في بناء الجيوش الدفاعية وسباق التسلح، وبناء رجال أمن داخلي أقوياء أمناء، بل أيضاً في بناء جيل واع بقصة بناء هذا الوطن، جيل يشعر أن كل شبر في أرض الوطن، وكل ذرة تراب فيه؛ هي جزء لا يتجزأ من حياته ومستقبل أبنائه وأحفاده.

من هذا المنبر الإعلامي، نجدد الدعوة التي أكد عليها الأمير سلطان بن سلمان بأهمية ربط أبناء الخليج صغاراً وكباراً بأرضهم وقيمهم التاريخية والاجتماعية المتوارثة التي تشكل في مجموعها مفهوم "الذاكرة" و"المواطنة"، من خلال برامج علمية وتعليمية وإعلامية راشدة، بل إنني أزيد على ذلك وأدعو لأهمية إنشاء كيان خليجي يرتبط بمجلس التعاون مباشرة ويكون معنيا بصياغة التشريعات المناسبة، ومن الضروري أن يتناغم هذا الكيان مع مجلس الدفاع والأمن الخليجي ليكون بمثابة المظلة الحاضنة لكل هذه المشاريع والمبادرات التي تقوم بها الدول في تعزيز الهوية وحماية عقول الأبناء من الغزو الهائل الذي يصعب اليوم السيطرة عليه أو حجبه. هذا الكيان يجب أن يعمل على تعزيز الهوية الوطنية لأبناء الخليج من أجل حمايتهم من الأمراض التي يحرص الأعداء على حقن أبنائنا بها، وتسميم عقولهم وسلخهم من مكونهم الحضاري والفكري وتاريخهم المشرق.

& &