سمير عطا الله
من يؤلف النكات؟ الجواب العفوي طبعًا هو، الظرفاء. لكن النكات السياسية تبدو في ظاهرها نوعًا من المفاكهة، فيما هي جزء من حملات نفسية تتولاها دوائر مختصة فيما يُعرف بـ«الأجهزة المعادية»، سواء كانت داخلية أو خارجية، أو كليهما.
كانت مصر سيدة النكات السياسية في العهود الجمهورية الماضية، وكانت الأزمات الملحة تزداد ازدهارًا وانتشارًا كلما اشتدت الأحوال الاقتصادية، أو الاجتماعية، خصوصًا مثل أزمات التموين، التي كانت تؤدي إلى وقوف الناس في طوابير طويلة من أجل الحصول على المواد الغذائية. ومن بين النكات التي شاعت كثيرًا آنذاك، واحدة تقول إن الرئيس بعث يطلب مثول الرجل الذي يؤلف كل هذه الحكايات، لما جيء به، سأله الرئيس: هل أنت قائل النكتة الفلانية؟ فأجاب: نعم، وتلك النكتة الأخرى؟ فأجاب: نعم، فعندما قال له موبخًا: أتعرف أنك تشنّع على الرجل الذي انتخبه 99.999 في المائة من الناس؟ فأجاب المتّهم: لا علاقة لي سيدي بهذه النكتة على الإطلاق.
كنت أبحث في مجموعة مؤلفات عباس محمود العقّاد، عندما وقعت على مقال في مجلة «الرسالة» عام 1939 عنوانه «الفكاهة والطغيان». وفوجئت به يروي النكتة نفسها حرفيًا عن القائد الألماني النازي الجنرال غورينغ. ويعرض العقّاد للنكات السياسية الدارجة تلك الأيام في روسيا وإيطاليا والدول الديكتاتورية الأخرى، فنكتشف أن معظمها جرت روايته بنسخ حديثة في الخمسينات والستينات، وحتى إلى بدايات عهد الرئيس مبارك. ومنها واحدة شاعت أيضًا في سوريا والعراق تقول إن الشرطة الروسية منعت سير الزرافات في المدينة، فراحت الأرانب تختبئ خوفًا، فقال لها ثعلب: مما أنتِ خائفة والمطلوب هو الزرافات؟ فقالت: إلى أن تتحقق الشرطة من المسألة، يكون الأمر قد انقضى.
ثمة ثلاثون عامًا على الأقل بين ما قال العقاد والزمن الذي سمعنا فيه هذه الطرائف. وهذا يعني أن النكات السياسية تُستنسخ من عصر إلى عصر، وتنتقل من بلد إلى بلد، لا يعوزها شيء سوى قليل من المطابقة. وقد حملتني مقالة العقّاد على العودة بالذاكرة إلى معظم ما سمعناه، فخلصت، إلى أن ثمة عفوية كثيرة في ترداد النكات لأنها تنتشر بين الناس كالعدوى. غير أن هذا لا يمنع ما هو معروف عن دور الأجهزة المختصة في تدبير أمور السخرية السياسية. وربما كان العقّاد نفسه قد نقل، بصورة بريئة، ما كان يشاع آنذاك عن السوفيات، إضافة إلى ما رواه عن ظرف الزعيم سعد زغلول، والمفاكهات التي كان يطلقها على زملائه من السياسيين المصريين. ومعظمها أيضًا تردد في العقود التالية منسوبًا إلى سياسيي المرحلة.
التعليقات