سمير عطا الله
انشغل العالم أجمع في السنوات الماضية حول نظريتين لعالِمين أميركيين: الأولى، أن العالم مقبل على صراع حضارات مدمّر، لصامويل هانتنغتون. والثانية، أن التاريخ قد انتهى، والديمقراطية قد انتصرت، لفرنسيس فوكوياما. طلع فوكوياما بنظريته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ونهاية الحرب الباردة، وما بدا أنه انتصار كاسح للرأسمالية بعد صراعها مع الشيوعية.
كل عام يتبيّن لنا أن الحالة البشرية أعقد بكثير من أن تحصر في نظريات حاسمة. فالسوفيات الذين بدا لفوكوياما أنهم زالوا كقوة مهيمنة، عادوا فبرزوا كروس عدائيين في كل مكان. وصراع الحضارات الذي بدا حتميًا لهانتنغتون بين المسيحية والإسلام، يتخذ شكل تحالفات لم يتصورها، بين الروسية المسيحية و«الجمهورية الإسلامية»، فيما تُبحر تركيا في كل الاتجاهات وعكسها، وسط متغيرات لا ينطبق عليها بدايات التاريخ أو نهاياته، بل إن كل شيء ينتظم في سياق بركاني متوالد، لا يخضع لأي قاعدة أو عِلم.
وكما يطيب للعلماء السياسيين توصيف المراحل وتسمية المتغيرات، لعلنا اليوم في مرحلة ما بعد هانتنغتون وفوكوياما معًا. وتزداد رمادية المرحلة غموضًا مع تحول غرب فوكوياما إلى متراجع، وشرقه المهزوم إلى توسعي. الأكثر عَطْبًا واهتزازًا اليوم، بعكس نهايات القرن الماضي، هي الديمقراطية الغربية التي بدت في حملة الرئاسة الأميركية هشة إلى درجة مثيرة للقلق. وبينما يبدو نظام بوتين مستقرًا إلى سنوات، تبدو معظم الأنظمة الرأسمالية الكبرى على حافة متغيرات أساسية، في زعاماتها السياسية، من ألمانيا إلى فرنسا.
وحتى الدول الإسكندنافية التي كانت عنوان الاستقرار والحياد تحاول الاحتماء من الجار الروسي، بعقد أحلاف عسكرية لا سابقة لها، مع الولايات المتحدة. والذين يذكرون منا جولة ميخائيل غورباتشوف على دول البلطيق آخر أيام السوفيات، مناشدًا الناس عدم الخروج من الاتحاد، سوف يفزعهم اليوم احتمال هجوم روسي على تلك الدول «لاستعادتها» إلى الحضن السابق. وقد أعادت الدول الثلاث العمل بنظام التجنيد الإجباري وكأنها تستعد حقًا لحملة عسكرية كالتي قام بها بوتين على جورجيا أو القرم. دعك طبعًا مما أظهره من استخدام القوة العسكرية الطاحنة في سوريا.
لا بد أن يقترح علينا المؤرخون ذات يوم اسمًا للمرحلة التي نمر بها: الأميركيون يحزمون حقائب التاريخ، والروس يفجرونها. وسواء قبل التاريخ أو بعده أو خلاله، يدفع أبرياء الأرض أثمان الشرور.
التعليقات