اغتيلت طوباوية الربيع العربي، وخلفت وراءها قتامة الانقسامات في بلد تلو الآخر.
ستبقى ثورات الربيع العربي، لعقود من الزمن، مادة ثرية للتحليلات الأكاديمية، خاصة أن تداعياتها لا تزال ممتدة إلى الآن، ولا تزال قادرة على إيجاد تغييرات حقيقية في المنطقة. وفي هذا الإطار، يأتي كتاب الكاتب والصحافي الأمريكي روبرت ورث، الذي أمضى 14 عاما كمراسل لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، ومدير لمكتب بيروت في الفترة من 2007 إلى 2011.
يتناول الكتاب الذي يستعرضه الباحث المختص في الشؤون العربية محمد السيد موجة الثورات العربية التي اندلعت في الشرق الأوسط، والتي طالب خلالها المتظاهرون بإسقاط الأنظمة الحاكمة.. وذلك في تونس، ومصر، وليبيا، وسورية، واليمن. ولكن بعد خمس سنوات من اندلاع تلك الثورات، تلاشت مطالبهم، وتبخرت أحلامهم على صخرة الاستبداد من جديد. ولكن هذه المرة، لم يقف الاستبداد وحده أمام تطلعات الشعوب، بل برزت الحروب الأهلية والتنظيمات الإرهابية.
يتتبع ورث في مؤلفه الإرث الذي خلّفه الربيع العربي، حيث يستعرض الأحداث السياسية، والعسكرية، والاجتماعية، من خلال مجموعة من المقالات القصيرة، والقصص، والصور الحية، لأشخاص بسطاء عاصروا الثورات بمختلف مراحلها من وجهة نظر علم النفس.
الإحباط والفوضى
ضاقت الشعوب العربية بعقود من الاستبداد، والحكم القاسي، والنظم السياسية والاجتماعية البالية، فثارت ضد حكامها، وخرجت إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير، فاتحدت معظم فئات الشعوب على كلمة واحدة، هي معارضة النظام والمطالبة بإسقاطه. وفقا للكاتب، فإن ما حققته الشعوب هو الجزء الأسهل، قائلا: "هذا ما يخبرنا به تاريخ الثورات". فإسقاط النظام القديم غالبا ما يكون الجزء الأسهل، حتى لو كان ليس من السهل حدوثه، لكنه إنجاز نفسي على الأقل.
ولكن، لم تستطع الشعوب العربية استكمال مسيرة التغيير، فتحولت نشوة الثورة إلى ويلات الحرب الأهلية والفوضى. ليس ذلك فحسب، ولكن الأنظمة البالية استطاعت العودة من جديد إلى الساحة السياسية، فانهارت سورية، وليبيا، واليمن، وسقطت في حالة من الفوضى، التي ولدت خوفا، الذي بدوره ولد العنف الذي صاحبه الانتقام والغضب، ومن ثم مزيد من العنف. وتعيش هذه البلاد الثلاثة في حالة من الفوضى. أما مصر، فتزحف إليها التهديدات الأمنية من سيناء وليبيا. فقط تونس التي حاولت بشجاعة إيجاد ديمقراطية، لكن لا يزال الطريق طويلا لتقييم تجربتها.
وإذ يؤكد الكاتب أن منطقة الشرق الأوسط تمر بأزمة غير مسبوقة، وأن الانتفاضات الشعبية لم تضعف الحكام المستبدين فقط، ولكنها أضعفت أسس الأمن والاستقرار في المنطقة، فقد حاول الكشف بدقة عن أسباب خروج الشعوب ضد الديكتاتوريات، ولماذا لم تكن قادرة على الحفاظ على الديمقراطية التي اكتسبتها بأيديها. ويقدم الكتاب صورا عن كفاح الرجال والنساء على السواء في تونس، وليبيا، ومصر، وسورية، واليمن، فهو يجسد الآمال الكبيرة، وأيضا اليأس العميق بعد ثورات الربيع العربي، وآثارها المأساوية.
قصص تروى
يحاول الكاتب تقديم تناول جديد ومميز لأحداث الربيع العربي، وتحولاته الدراماتيكية، من خلال تتبعه ببراعة مسارات مجموعة من الشخصيات التي شقت طريقها وسط غموض أحداث تلك الثورات، والغموض الذي أعقبها، وذلك من خلال بعض الشخصيات الشهيرة في مصر وتونس، وبعض الشخصيات الأخرى التي انضمت لتنظيم "داعش"، ثم انشقت عنه.
طعّم الكاتب هذه القصص بملاحظاته الشخصية التي أخرجت كتابا ثريا وغنيا بالمعلومات.
فقد قام الكاتب بالجمع بين رواية القصص المثيرة مع تحليل متعمق لما يحدث الآن في منطقة الشرق الأوسط، والغضب الذي يشتعل ويستمر حتي الآن، ويتصاعد حتى يتحول إلى حروب أهلية تجتاح المنطقة. ويشرح كيف أعطى حلم النهضة العربية الطريق لعصر جديد من الفتنة. فالثورات العربية بدت من خلال الكتاب وكأنها دراما إنسانية ومأساة، وقد تم توثيق أحداثها من خلال شهود عيان سجلوا روايات ستبقى حية لسنوات مقبلة، منذ بداية اندلاع المظاهرات الواسعة من ميدان التحرير، في أثناء ثورة 52 يناير 1102. كما تم تقديم تقارير صحافية تلقي الضوء على أزمات الشرق الأوسط الراهنة من خلال التجارب اليومية. فقد اعتمد الكاتب على معرفته بالشرق الأوسط لتقديم تحليل مثير للجدل من خلال مقابلات عديدة تكشف الأحداث، وتضع صورة متشائمة للمنطقة في الفترة المقبلة.
وقد ذكر الكاتب أن الكتاب هو عبارة عن قصص أفراد، وليس جماعات، أو طوائف، الأمر الذي شكل تحديا. كما حاول تبسيط الأمور، وتقديم مفاهيم متجانسة بشكل كبير، فقدم وجهات النظر المتنافسة على ساحة الشرق الأوسط، مع التركيز على مصر، وليبيا، وسورية، واليمن، وتونس. وقد طعّم الكاتب هذه القصص والمشاركات بملاحظاته الشخصية التي أخرجت كتابا ثريا وغنيا بالمعلومات.
يزخر الكتاب بالقصص المذهلة، التي تروي بوضوح أسرار وتعقيدات الشرق الأوسط المضطرب، والشعوب التي ناضلت من أجل أن تجد طريقها لحياة هادئة. وأقوى فصول الكتاب هو الذي يتحدث عن قصة امرأتين سوريتين صديقتين، إحداهما من الطائفة العلوية الحاكمة، والأخري سُنية. ومع مرور الوقت، ووقوع بلدهما فريسة للحرب الأهلية، اختلفت الصديقتان، وأصبحتا عدوتين. وعلى الرغم من تلك الفوضى، فالقصص المتداخلة، التي يرويها الكتاب بهدوء ولطف، تسمح للقارئ بفهم تعقيد الموقف في الشرق الأوسط، ولماذا استمر العنف والغضب في سورية إلى الآن؟ ولماذا فشلت تجربة جماعة الإخوان المسلمين في مصر؟ أوهام "حدودية"
يبدد الكاتب في كتابه أحد الأوهام المفسرة لمشاكل الشرق الأوسط، وذلك بأنها جاءت نتيجة ترسيم حدود خاطئ، أو مشاكل عرقية، فهو يرى أن الصراعات والحروب الأهلية التي نشبت، ولا تزال جارية في المنطقة، مثلها مثل غيرها من المناطق بسبب الفوضى والفتنة. كما أن القوة والخوف وفكرة الانتقام، هم محور ممارسة العنف في الشرق الأوسط.
فبعد أن ثارت المجتمعات والشعوب العربية على الاستبداد، والفساد، والتدهور الاقتصادي، تبددت جميع مطالبهم وأحلامهم على مدى السنوات الخمس الماضية، حيث اغتيلت طوباوية الربيع العربي، وخلفت وراءها قتامة الانقسامات في بلد تلو الآخر، وصعدت التنظيمات الإرهابية، وأصبحت أكثر وحشية. فيرسم الكاتب صورة دموية طبيعية للشرق الأوسط، واستدعى فرضيات "هوبز"، وكأن الشرق الأوسط عاد إلى مرحلة ما قبل تنظيم المجتمعات الإنسانية، حيث يعيش حالة حرب الجميع ضد الجميع.
التعليقات