عبدالله بن بجاد العتيبي
قام العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز الأسبوع الماضي بجولةٍ رسميةٍ حول دول الخليج العربي، بدأها بدولة الإمارات العربية المتحدة ثم قطر والبحرين، حيث حضر قمة مجلس التعاون الخليجي، وختمها في الكويت.
هذه زياراتٌ تاريخيةٌ لتوطيد العلاقات وتعزيز التعاون وتقوية الروابط الأخوية العميقة، فدول الخليج العربي يربطها التاريخ والثقافة واللغة، كما يربطها المصير المشترك والطموحات المستقبلية.
انطلق عهد الملك سلمان برؤيةٍ واضحةٍ تجمع الحزم والحكمة، الحزم في السيادة والأمن وحماية مصالح السعودية وحلفائها في دول الخليج ومصالح الدول العربية والشعوب العربية، والحكمة في التطوير وإجراء الإصلاحات الضرورية التي تضمن للسعودية اقتصادًا متينًا ومستقبلاً متماسكًا، وهو ما عبرت عنه رؤية السعودية 2030 التي يعلق عليها السعوديون الآمال العراض.
شكلت سياسة الملك سلمان تقدمًا في الدور السعودي في المنطقة واستثمارًا أمثل لما تمثله من مشروعية سياسيةٍ عميقة الجذور في التاريخ وواسعة الانتشار في الجغرافيا، كون السعودية هي بلد الحرمين الشريفين ومهبط الوحي ومهد الإسلام ومأرزه، وهي أصل العروبة وأرومتها، منها انطلقوا لبقية البلدان العربية، ومن هنا جاء التقدم في السياسة الخارجية السعودية.
ولانعكاس هذه السياسة ثلاث دوائر رئيسيةٍ؛ الدائرة الأولى هي الدائرة الخليجية، وهي التكتل العربي الأكثر تماسكًا ونجاحًا مقارنةً بأمثاله، وهو ما سعت هذه الجولة الملكية لتعزيزه وترسيخه، لأنه يأتي في الدرجة الأولى بعد الوحدة الوطنية والسيادة والأمن، ولمّ الصفّ الخليجي أكثر والتوجه نحو الاتحاد بعد التعاون يجب أن يكون هو الخطوة الأولى في بناء المستقبل، لأنه لو تحقق فسيجعل من دول الخليج لاعبًا دوليًا كبيرًا على جميع الصعد.
الدائرة الثانية هي الدائرة العربية، والسعودية عبرت بوضوحٍ لا مرية فيه في عهد الملك سلمان أنها مع الدول العربية وشعوبها، تدافع عن سيادتها وحقوقها، وترفض أي اعتداءاتٍ على سيادتها أو مساسٍ بوحدتها، وهو الموقف المعلن تجاه العدوان الإيراني الغاشم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد أطلق الملك سلمان «عاصفة الحزم» لدعم الشرعية في اليمن ورفض أن يتحكم عملاء إيران من الحوثي وصالح في مستقبل البلد العربي الشقيق، وتم بناء «التحالف العربي» الذي يضم أكثر من عشر دولٍ عربيةٍ، والذي أوضح للجميع الدور القيادي للسعودية في حماية مصالحها ومصالح العرب.
الدائرة الثالثة هي الدائرة الإسلامية، حيث يتجه لمكة المكرمة ما يقارب المليار ونصف المليار مسلم يوميًا لأداء الصلاة، ويرتحلون إليها طوال السنة للزيارة والعمرة، وتظل قلوبهم معلقةً بأداء فريضة الحج مرةً في العمر، وهذا مصدر قوةٍ سياسيةٍ هائلةٍ، وهو ما يفرح حلفاء السعودية ويغيظ خصومها، هذا على الرغم من أن السعودية ترفض رفضًا قاطعًا أي تسييس لشعائر الحج والعمرة خلافًا لمن يريد استغلالهما لطموحاته التوسعية، كما فعلت وتفعل إيران.
ومن هذا المنطلق، قادت السعودية العالم الإسلامي في بناء «تحالف الدول المسلمة ضد الإرهاب»، وهو تحالفٌ عسكري مكونٌ مما يقارب الأربعين دولةً مسلمةً، وينطلق من الوعي العميق بالدور الإسلامي الملقى على عاتق السعودية وكون المسلمين هم أولى الناس في هذه المرحلة من تاريخ البشرية بمحاربة الإرهاب الذي يتسمى باسم الإسلام.
التحديات القائمة والتحديات المتوقعة في المستقبل القريب والبعيد كلها تدفع لأن تعزز السعودية من دوائر تحالفاتها، بحسب الترتيب المذكور أعلاه، فقد رأى الجميع كيف تفشت الفوضى والإرهاب في الفترة الماضية تحت شعارات الربيع العربي، وكيف تحالفت جماعات الإسلام السياسي والإرهاب مع إيران لنشر استقرار الفوضى في العالم العربي، وكيف كان انحراف سياسات الحلفاء الكبار وتحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية ضارًا بالمنطقة وشعوبها بشكل كبيرٍ، بل كيف كان الامتناع عن استخدام القوة الاستراتيجية قبل ذلك مؤذيًا في ملفاتٍ لم تزل تتضخم وتزداد تعقيدًا.
إن الوعي بالدور القيادي ووضعه موضع التنفيذ هو إحدى العلامات البارزة للسياسة السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وهو الذي استطاع إعادة كثيرٍ من التوازن للأوضاع الإقليمية وحافظ على المصالح وتجاوز الأزمات.
كانت الجولة الملكية عيدًا في الإمارات، وفرحًا في قطر، وبهجةً في البحرين، وسرورًا في الكويت، ومشاهد الاحتفاء والاحتفال بالزائر الكبير من القيادات والشعوب هي أكبر رصيدٍ يمكن البناء عليه نحو مزيدٍ من التعاون والتآلف والتعاضد والتناصر باتجاه الاتحاد الخليجي.
إن الترحاب الشعبي عالي الحضور بالجولة الملكية هو رسالة واضحةٌ، لا لشعوب المنطقة فحسب، بل للعالم أجمع، بأن وعي شعوب الخليج بالتاريخ المشترك والمصير المشترك هو مصدر قوةٍ لا يستهان به لدولها وقياداتها، وأن حجم الرضا الشعبي عندما يقارن بخصومٍ إقليميين لم تحصد شعوبهم إلا البلاء والخسار هو حجم يجب أن يوضع في الحسبان في أي مقارناتٍ دوليةٍ رسميةٍ أو أهليةٍ، بدلاً من الانحياز المشين الذين كان سائدًا لدى بعض تلك الجهات.
إن الوعي بلحظات التحول التاريخية كالتي تعيشها المنطقة تفرض إيقاعًا للتغيير والتطوير على المستوى العملي، كما تفرض إعادة نظرٍ عميقةٍ لتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ المشروعية السياسية مع كل ما يتطلبه ذلك من جهدٍ فكري ونظري يدفع باتجاه مستقبل أزهى بناء على ماضٍ عريق وحاضر زاهٍ.
كان حضور رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي لافتًا في القمة الخليجية بالبحرين، وهو مؤشرٌ جيدٌ على تعزيز التحالفات الدولية الصلبة لدول الخليج العربي، وقد جاء في كلمتها ما يبعث على الاطمئنان مستقبلاً، وقد كتب كاتب هذه السطور في هذه الصحيفة في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: «هذه الدول لديها تفاوت في التأثير على صانع القرار في واشنطن.. وبريطانيا قد تكون الأكثر حظًا في هذا السياق، وهي خرجت للتو من الاتحاد الأوروبي وتحتاج كثيرًا لإعادة كثير من الاتفاقيات مع السعودية ودول الخليج».
السعودية ودول الخليج هم أحوج ما يكونون للاستفادة من الدوائر الثلاث السابقة خليجيًا وعربيًا وإسلاميًا لتعزيز القوة والدفاع عن المصالح، وكذلك لتعزيز التحالفات القديمة وبناء تحالفاتٍ جديدةٍ، وذلك لضمان التأثير الدولي الفاعل والمستقل، بريطانيا نموذجًا.
أخيرًا، التكتلات المتماسكة هي الأفضل في زمن الاستراتيجيات المتحولة الذي نعيشه في المنطقة، وتجربة مجلس التعاون الخليجي تبدو هي الأقدر على مواءمة التطورات وسرعة الاستجابة لها.
التعليقات