صالح القلاب

رغم كل الإغراءات التي تحاول روسيا بها ومن خلالها استدراج بعض أطراف المعارضة حتى المسلحة منها كـ«درع الفرات»، المحسوب على الإخوان المسلمين السوريين والمقرب من تركيا، للمشاركة في مؤتمر آستانة في كازاخستان، فإن هذا في حقيقة الأمر مستبعد تحقيقه طالما أن الجهة الرئيسية في هذه المعارضة، التي هي الهيئة العليا للمفاوضات، التي تمثل الجميع بما في ذلك «درع الفرات» مستثناة وغير مقبولة، وما لم يكن هناك وضوح مسبق إزاء مستقبل بشار الأسد وضرورة رحيله وعدم بقائه في الحكم بأي شكل من الأشكال، وإزاء «جنيف1» والقرارات الدولية الأخرى المعروفة، والمرحلة الانتقالية الفعلية التي لا دور لرئيس هذا النظام الحاكم فيها، والتي من المفترض أن تأخذ هذا البلد إلى الديمقراطية الحقيقية وإلى مشاركة كل مكونات الشعب السوري في حكم نفسها بنفسها من خلال الانتخابات الحرة التي لم يعرفها هذا البلد، إلا لمرة واحدة مجزوءة في عام 1954.
قد تستطيع روسيا عقد اجتماع، وليس مؤتمر الـ«آستانة» في الوقت الذي كانت قد أشارت إليه، ولكن من دون المعارضة الفعلية التي تمثل الشعب السوري، إنْ ليس كله فبغالبيته، وفي طليعتها «الهيئة العليا للمفاوضات» و«الائتلاف الوطني» والتشكيلات المسلحة الحقيقية التي ثبت خلال الأعوام الخمسة الماضية أنها معتدلة فعلاً وأنه لا علاقة تنظيمية لها بـ«النصرة» لا سابقًا ولا لاحقًا، بعدما أصبح اسمها «جفش»، وبالطبع، ولا بـ«داعش»، ولا بأي تشكيل أو تنظيم ارتكب أي شكل من الأشكال الإرهابية لا داخل سوريا ولا خارجها ومارس عنفًا حقيقيًا ضد أي من المنتمين إلى أي من الأقليات السورية.
وهنا فإنَّ المؤكد أن ما يسميه الروس «معارضة داخلية» ليس كلها على قلب رجل واحد، كما يُقال، وأنه محسوب عليها بعض الرموز الوطنية التي لا يمكن، وتحت أي اعتبار من الاعتبارات التي تفكر روسيا الاتحادية بتمريرها في اجتماع وليس مؤتمر الـ«آستانة» في كازاخستان، أن تتخلى عن شرط رحيل بشار الأسد وشرط عدم القبول بأي دور له في المرحلة الانتقالية التي نص عليها «جنيف1» الذي أشار إلى أنه بالإمكان أن يشارك في هذه المرحلة بعض رموز هذا النظام الذين لم يرتكبوا جرائم ضد أبناء شعبهم، والذين لم تلطخ أيديهم بدماء السوريين على مدى الأعوام الستة الماضية.
إن المفترض أن الرئيس فلاديمير بوتين قد قرأ أو اطلع على الأقل على أنَّ الدبلوماسي الأميركي المعروف بحنكته ومعرفته بشؤون هذه المنطقة وشجونها، دينيس روس، قد قال عنه أولاً إنه لا يرغب في حرب بلا نهاية في سوريا بحكم عوامل كثيرة من بينها أوضاع بلاده الاقتصادية وانشغالها بإشكالات ومشكلات أخرى كثيرة غير المشكلة السورية، وثانيًا أنه، أي الرئيس الروسي، يعرف أنه ليس هناك جزء من الأراضي السورية من المرجح أن ينتهي فيه الصراع ما دام نظام بشار الأسد باقيًا في حكم هذا البلد.
والمشكلة هنا أن التجارب، تجارب الأعوام الخمسة الماضية، قد أثبتت أنه لا يمكن الثقة بروسيا الاتحادية، وأنَّ فلاديمير بوتين يتحدث عن ضرورة الحفاظ على وحدة هذا البلد وهو يسعى سعيًا جادًا إلى تقسيمه، وأنه يقول إنه اتفق مع الرئيس الأميركي باراك أوباما على ضرورة الانتقال بسوريا من هذا الصراع الدموي المحتدم إلى الحل السياسي و«بأسرع وقت ممكن»، بينما طائراته، التي دمرت مدينة حلب وسوَّت أبنيتها ومنازل أهلها بالأرض، تواصل قصفها التدميري في إدلب وفي ضواحي حماة وحمص وحتى في بعض أطراف العاصمة دمشق الشام.
والمضحك فعلاً أن بشار الأسد، الذي يبدو أنه يواجه ضغطًا روسيًا للنأي بنفسه ولو قليلاً عن الإيرانيين وتوجهاتهم وما يسعون لتحقيقه، إنْ في سوريا التي مثلهم مثل الروس أصبح وجودهم فيها وجودًا احتلاليًا بكل معنى الكلمة، قد قال بدوره إن انسحاب المعارضة من حلب يمهد إلى حل سياسي، وذلك بينما طائراته تواصل غاراتها هي أيضًا على مناطق سورية كثيرة، من بينها الجزء الغربي من هذه المدينة التي غدت كومة من الأتربة والحجارة، وهذا بالإضافة إلى إدلب وغوطة دمشق وضواحي حماة وحمص، وحقيقةً، كل المناطق التي تقع خارج السيطرة الحكومية - الأسدية.
ولهذا، فإنه لا يمكن الثقة في كل هذا الذي يقوله فلاديمير بوتين حول الحل السياسي «الذي غدا منشودًا»، بعد انسحاب المعارضة من حلب الذي يردده مرغمًا بشار الأسد، للتلاؤم مع ما يقوله الرئيس الروسي، طالما أنَّ العمليات العسكرية لم تتوقف وطالما أن اجتماع الـ«آستانة» قد طُرح واقترح أساسًا من أجل التخلص من «جنيف1»، ومن القرارات الدولية المتعلقة بالحلول السياسية، التي كان قد تم التوصل إليها وفقًا لمرحلة انتقالية من دون هذا الرئيس السوري، وتنهي الصراع في سوريا وتحافظ على وحدتها وتأخذها إلى الديمقراطية والحريات العامة.
إنه لا مجال إطلاقًا لتمرير حلٍّ «أخْرق» يبقي على ما كان قائمًا قبل انتفاضة مارس (آذار) عام 2011، وحتى مع إضافة بعض الرتوش الديكورية، ولذلك فإنه على الرئيس فلاديمير بوتين أن يدرك، والمؤكد أنه يدرك، أن هذه الحرب ستكون بلا نهاية وهذا على غير ما يرغب فيه ويريده، وأنه، كما قال دينيس روس وكما يقول غيره، يفتقر إلى القدرة لإجبار المعارضة على عدم مواصلة القتال ضد نظام بشار الأسد، وهكذا فإن أي جزءٍ من الأراضي السورية لن ينتهي فيه هذا الصراع المحتدم ما دامت هذه السلطة الغاشمة والباغية باقية ومستمرة.
لقد كان فلاديمير بوتين قد اتفق مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، بعد تلك الضربة القاضية التي استهدفت في الثامن عشر من يوليو (تموز) عام 2012 مجموعة الأسد الأمنية بغالبية أكبر وأهم رموزها، على ضرورة حدوث انتقال سياسي في أسرع وقت ممكن لتحقيق هدفهما المشترك في ذلك الحين لوقف العنف وتجنب مزيد من تدهور الأوضاع، ثم لقد كان الرئيس الروسي قد استجاب في السابع من مارس عام 2013 بعد أزمة الأسلحة الكيماوية المعروفة، لمبادرة بالإمكان اعتبارها مبادرة فلسطينية نصت وبكل وضوح على ضرورة تنحي النظام القائم وتسليم السلطة بشكل عاجل إلى حكومة انتقالية ذات صلاحيات كاملة برئاسة إحدى الشخصيات المعارضة، يتم التوافق عليها، تأخذ على عاتقها إدارة البلاد والحفاظ على مؤسسات الدولة ووحدة المجتمع والتحضير للانتقالة الديمقراطية المطلوبة.
ولذلك، ما دام الرئيس الروسي وافق على هذه المبادرة الآنفة الذكر وقبل بهذا الحل الذي أحبطته رداءة أداء الرئيس الأميركي (الحالي) باراك أوباما، أليس بإمكانه، يا ترى، لأنه لا يرغب في استمرار هذا الصراع ولا بحرب بلا نهاية ولأنه أيضًا يفتقر إلى القدرة على إجبار المعارضة السورية على عدم مواصلة القتال ضد نظام بشار الأسد، أن يتمسك بـ«جنيف1» وبالمرحلة الانتقالية وبالقرارات الدولية المتعلقة بهذا الشأن وأن يتخلى عن كل هذه المناورات العبثية ليسجل التاريخ اسمه في صفحة القادة العظام الذين اتخذوا قرارات شجاعة في اللحظات الحاسمة وأقدموا على خطوات موفقة نادرة، وكل هذا مع حصوله على ضمانات دولية لاحتفاظه بالقواعد التي أقامها على الأراضي السورية وأهمها قاعدة «حميميم» العسكرية.