محمد السعيدي

أعظم ما اتهمت به دعوة التجديد هو تكفيرها للمسلمين، لكن الوقائع التاريخية تُثْبِتُ أن خصوم الدعوة هم من بدأوا بتكفيرها حين ظهورها وقبل أن ينتشر أمرها وقبل أن ترفع راية الإسلام في قتال أحد

&


حين يكون التاريخُ سلاحَك وسلاح خصمك في محاولة كلٍ منكما الانتصار لقضيته، فهذا يعني أنكما قد قررتما سلفاً عدم الوصول إلى توافق، ذلك أن التاريخ كثير الأحداث وكل حدث قابلٌ لعدد من التفسيرات، كما أنه قابل للانتحال، فما من قضية تاريخية مفصلية إِلا وتجد أن الثابت المروي في أحداثها مُختَلِطٌ بالمنحول المُفْترَى لدرجة جعلت علم التاريخ من أعسر العلوم لمن أراد أن يقوم بحَقِّه كما ينبغي له من أهل الاختصاص فيه وقليل ما هم.
ومن القضايا المفصلية التي لم تتعرض لكثير من الانتحال وحسب، بل تعرضت للتعمية وسوء التفسير والانتقائية المقيتة: تاريخ العلاقة الفكرية بين دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وبين سائر الفرق والطوائف الإسلامية، منذ نشأة الدعوة عام 1158، وهو تاريخ وصول الشيخ محمد رحمه الله تعالى إلى الدرعية، حتى يومنا هذا، وكذلك العلاقة العسكرية بين الدولة السعودية والدول المجاورة، منذ نشأة الدولة في عهدها الأول حتى يومنا هذا.


ولا شك أنني لن أتمكن في مقال واحد من مناقشة كل ما تم انتحاله على الدعوة والدولة، أو إبراز كل ما تم تجاهله والتعامي عنه من أحداث، ولكنني سأخصص المقال لضرب الأمثال وحسب، وعلى من كان محباً للإنصاف راغباً في الوصول إلى الحقيقة الرجوع إلى الكتب المفردة التي اعتنت بهذه القضايا وأطالت فيها الحديث، وأعترف آسفاً أنها من الجانب المناصر للدعوة والدولة قليلة جداً قياسا إلى حجم الهجمة وأهمية الموضوع بالنسبة إليهم.
فأعظم ما اتهمت به دعوة التجديد هو تكفيرها للمسلمين، ولن أناقش هنا حقيقة موقف الشيخ محمد رحمه الله وعلماء الدعوة من التكفير، بل سأذكر وقائع تاريخية تُثْبِتُ أن خصوم الدعوة هم من بدأوا بتكفيرها حين ظهورها وقبل أن ينتشر أمرها وقبل أن ترفع راية الإسلام في قتال أحد.


وبيان ذلك أنه من المُستقر تاريخياً: أن اللقاء والحلف التاريخي بين الدولة والدعوة تم في عام 1157، وظلت دولة الدعوة منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1187 ولم تتجاوز حدودها قرى ما يعرف في ذلك اليوم وحتى يومنا بالعارض وبعض بلدات الوشم والعُرض، وغالب هذه البلدات خضعت لدولة الدعوة سلماً.


ومع ذلك ابتدأها الآخرون بالتكفير والعدوان، أما التكفير فيرى في كتاب "فتننة الوهابية"، قال: "وكانوا في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنًا منهم أنّهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبهة بالكذب والمين فلمّا وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملّكوا به ردّ عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها وتحقّق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة ومسخرة كحمر مستنفرة فرَّت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضى الشرع بمكة تتضمّن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم فيعلم بذلك الأول والآخر، وكان ذلك في مدّة إمارة الشريف مسعود بن سعيد بن سعد بن زيد المتوفى سنة 1165 وأمر بحبس أولئك الملاحدة فحبسوا وفرَّ بعضهم إلى الدرعية". فانظر كيف أرسل القائمون على الدعوة من يخبر بحقيقة دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة في بداية أمرها، وهو ما قبل وفاة الشريف مسعود عام 1165، وكيف جوبهوا بالعرض على القضاء والحكم بكفرهم وحسبهم، بل انظر إلى غطرسة هذا المعارض للدعوة وهو يقول: "وجدوهم ضحكة ومسخرة"!
وذكر المؤرخ التركي سليمان خليل العزي أن "الشريف مسعود أرسل إلى السلطان محمود الأول بأن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه ملحدون لا دينيون، وطلب المساعدة بالمال للقضاء عليهم".


وقد استجاب السلطان لطلب الشريف مسعود المدعم بالحكم القضائي وأرسل له 25 كيسا من المال لتجهيز العساكر لمقاتلة هؤلاء الخارجين عن الدين كما ذكر ذُلك إسماعيل حقي في كتابه أشراف مكة في العهد العثماني، وكان ذلك تحديداً سنة 1162 ودولة الدعوة لم تتجاوز حدودها الدرعية، ولم يصل شريف مكة ولا الدولة العثمانية منها أَذًى سوى عدد من العلماء جاءوا لعرض ما يرونه على علماء مكة ومناقشتهم فجوبهوا بحكم قضائي بالتكفير والحبس، وقال بعض المؤرخين بل تم الحكم بقتلهم. والعجب من هذا السلطان الذي يرسل أكياس الأموال لمقاتلة أهل الدعوة، ودولته لم ترسل يوما قبل ذلك جندياً واحداً لضم ديار نجد إليها، ولم ترسل كيساً واحداً لمساعدة أهل نجد على ما كان يصيبهم من اللأواء والمساغب والمجاعات. وقد وصلت الأموال للشريف مسعود لكنه لم يقم بشيء مما كُلِّف به حتى مات، مما يوحي بأنه إنما استصدر الحكم القضائي على دعاة الدولة السلفية وأرسل إلى السلطان من أجل أن يحصل على هذا المال.


وهناك من يُزعم أن دولة الدعوة هي من اعتدت على الدولة العثمانية في العراق وهي من ابتدأ أهل كربلاء بالقتل دون أي سبب سوى التكفير الذي يسعون جاهدين لإلصاقه بهذه الدعوة المباركة، وقائل هذا إن كان جاهلاً فإنه في حاجة لسماع بقية القصة.


فحينما لم تقم إمارة مكة بما طُلب منها أرسلت الدولة العثمانية جيشاً من العراق بغرض القضاء على دولة الدعوة وذلك سنة 1201 بقيادة ثويني بن عبدالله شيخ قبائل المنتفق، ومعه آلاف المقاتلين من قبائله ومن شمر وطي والخزاعل سنة وشيعة، وتوغلوا في أراضي دولة الدعوة، الدولة السعودية حتى وصلوا إلى بريدة وحاصروها، لكن الأنباء السيئة عن بلاد ثويني جعلته يفك الحصار ويعود أدراجه. وكان رد الإمام عبدالعزيز بن محمد على هذه الحملة: أن أرسل رسالة إلى والي بغداد تتضمن كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب إلا أن الوالي رد عليها رداً سيئا.

واستمرت قبائل العراق بمختلف انتماءاتها المذهبية تدعم الخارجين على الدولة السعودية وتؤوي المنشقين عنها مما اضطر الإمام عبدالعزيز إلى شن غارات تأديبية على تلك القبائل. وأعاد والي العراق إرسال القبائل العراقية بمختلف انتماءاتها الطائفية من جديد لإسقاط الدولة السعودية بقيادة ثويني مرة أخرى، وكانت هذه الحملة كبيرة جداً وخطيرة إلا أن الله وقى من شرها حيث قُتِل ثويني من قِبَل بعض جنوده، وتفرقت الحملة وطردتها قوات الإمام عبدالعزيز حتى أوصلتها للعراق.


ولم تكتف الدولة العثمانية بهذه الهزائم، بل أرسلت سنة 1213 حملتين برية وبحرية مكونتين أيضا من المكونات المذهبية العراقية، كانت البرية بقيادة علي الكيخيا، وحاصرت الهفوف والمبرز إلا أنها انهزمت واضطرت للانسحاب، وقابلتها قوات الإمام عبدالعزيز بقيادة ابنه سعود، وكان بوسعها استئصال حملة الكيخيا إلا أنها آثرت السلم ووقَّعت مصالحة بين الطرفين فعادت قوات الكيخيا إلى العراق سالمة.


إلا أن شيعة العراق تسببوا في نقض هذا الصلح حيث قامت فئات من شيعة العراق بالإغارة على 300 من تابعي الدولة السعودية ومحاصرتهم قرب النجف وقتلهم عن بكرة أبيهم، ولما وصل الأمر إلى الإمام عبدالعزيز أرسل إلى والي بغداد يطلب ديتهم فقط، ويطلب معاقبة الجناة، إلا أن والي بغداد لم يستجب لذلك، فما كان من الدولة السعودية إلا أن أرسلت قواتها إلى جنوب العراق، وقاتلت كل من قاتلها وكان ذلك هو سبب ما عُرف تاريخياً بوقعة كربلاء.


نعم كان رد الإمام عبدالعزيز قويا إلا أننا لا يمكن أن نلومه دون أن ننظر إلى الخلفيات التي انطلق منها، كما أنه ليس لنا أن نروي ما حدث في كربلاء دون أن نروي بواعثها.


أعود لأقول إن هذا المقال لم يأتِ ليروي كل شيء، لكنه جاء ليقول إننا حين نصر على جعل التاريخ حَكَمَاً ثم ننتقي منه أحداثاً وأقوالاً دون أن نتأمل سياقها وبواعثها، فهذا يعني بحق أننا لا نريد الوصول إلا إلى مزيد من الخصومة.
&