عوني صادق

على وقع التطورات الدولية والإقليمية الرئيسية التي احتلت أنباؤها عناوين الأسبوع الماضي، بدءاً برفع العقوبات عن إيران وزيارات الرئيس الإيراني حسن روحاني الأوروبية، ثم بدء جلسات مفاوضات جنيف السورية، متزامنة مع تكثيف الغارات الروسية، وتقدم الجيش السوري في مناطق مختلفة من سوريا، امتلأت الساحة الفلسطينية بتصريحات أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، حول الاستيطان والإجراءات القمعية «الإسرائيلية»، وتصريحات وزير الخارجية الفرنسية، رولان فابيوس، عن نية فرنسا الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لبحث القضية الفلسطينية، وإلّا فإنها مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، إن فشلت هذه الدعوة، بينما حملت الهبّة الشعبية الفلسطينية المستمرة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما يعتبر مفاجأة للسلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية «الإسرائيلية» معاً!
فكرة عقد «مؤتمر دولي» يبحث الوضع الفلسطيني فكرة عتيقة في دفتر عتيق! لكنها خرجت هذه المرة من رام الله، بعد أن جربت وفشلت، لكن التاجر المفلس دائماً يرجع للدفاتر العتيقة! جاءت بعد أن ثبت أن «قرارات وتهديدات» المجلس المركزي بإعادة النظر في العلاقة مع الكيان الصهيوني، لم تكن إلّا قنابل صوتية، كان هدفها القفز عن «انكشاف حالة العجز»، إزاء الممارسات «الإسرائيلية»، لدرجة استوجبت التغطية عليها، ولو لأيام أو أسابيع.


ويبدو أن حالة العجز المستمرة والمستشرية فرضت العودة إلى فكرة أشد وقعاً على الأذن، فكانت فكرة «المؤتمر الدولي»! وبدأت العودة في مؤتمر قمة شرم الشيخ في مارس/آذار الماضي، حيث تم تشكيل «اللجنة الوزارية العربية لمتابعة التحرك على الساحة الدولية، لدعم القضية الفلسطينية». وفي الثلث الأول من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، اجتمعت اللجنة المذكورة للبحث «في سبل إنهاء الاحتلال «الإسرائيلي» للأراضي الفلسطينية المحتلة»، بناء على طلب السلطة الفلسطينية، وتبنت قرار الدعوة إلى «عقد مؤتمر دولي بهدف التوصل إلى آلية دولية فعالة من أجل إنهاء الاحتلال، وإنجاز حل الدولتين، في إطار زمني محدد»!
وفي القمة الإفريقية ال 26، التي شارك فيها الرئيس محمود عباس، جدد دعوته إلى «عقد مؤتمر دولي للسلام يطبق مبادرة السلام العربية وحل الدولتين، وإنشاء آلية دولية جديدة فعالة، على غرار المجموعات التي تعمل لحل أزمات المنطقة مثل 5+1، الخاصة بالملف النووي الإيراني»! وقد استقوت السلطة الفلسطينية في دعوتها الجديدة بتصريحات أمين عام الأمم المتحدة، بان كي مون، حول الاستيطان، والممارسات «الإسرائيلية»، والعنف الذي تلجأ إليه سلطات الاحتلال في تصديها للفلسطينيين، وهبتهم الشعبية، وكذلك بتصريحات وزير الخارجية الفرنسية، فابيوس، الذي أعلن عن نية فرنسا الدعوة لمؤتمر دولي، وأنها مستعدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، إن فشلت هذه الدعوة!
غير أن المدقق في تلك التصريحات لن يحتاج إلى جهد كبير ليعرف أن ما يبدو محاولات «لإحياء الموتى» ليس أكثر من تحايل، معروفة مآلاته الفاشلة. ففكرة «المؤتمر الدولي» طرحت أكثر من مرة، وفشلت في كل مرة، وظروف الدعوة إليها اليوم أسوأ بكثير من ذي قبل، ويكفي التذكير بتصريحات صائب عريقات لمجلة ديفنس الأمريكية، قبل أسبوعين للتأكد من هذه الحقيقة. فالولايات المتحدة «تمنع» السلطة من الوصول إلى الأمم المتحدة، سواء كان ذلك لمجلس الأمن أو الجنائية الدولية، أو أي من المؤسسات الأخرى.

وفرنسا سبق لها أن فكرت بمثل هذا الاقتراح أكثر من مرة، وتراجعت عنه تحت الضغط الأمريكي و«الإسرائيلي». أمّا تصريحات الأمين العام، بان كي مون، فهي «موسمية» ودائماً تخدم غرضاً محدوداً، وقد تراجع عنها بسرعة، عندما استنكر في تصريحات لاحقة «أنفاق غزة»، وجعلها سبباً للعنف «الإسرائيلي»! لقد اعتبرت فصائل المقاومة الفلسطينية، وهي على حق، أن الطرح الفرنسي، والدعوة لمؤتمر دولي، هي «مضيعة للوقت»، و«محاولة للقضاء على الانتفاضة الجارية»، و«فرصة للسلطة الفلسطينية للتمسك بسياساتها، وتحديداً بالتنسيق الأمني» مع الأجهزة الأمنية «الإسرائيلية»! ولم يكن ما قالته الفصائل استنتاجاً، بل جاء على لسان الرئيس محمود عباس في كلمته في مؤتمر القمة الإفريقية، حيث قال مؤكداً: «سنظل نعمل وشعبنا باستخدام الوسائل السياسية والقانونية، وعبر المقاومة الشعبية السلمية لإنجاز حقوقنا الوطنية...»!
وبينما تدور السلطة الفلسطينية حول نفسها، متمسكة بطروحاتها الفاشلة والاستسلامية، تتواصل الهبّة الشعبية، ويعترف قادة الجيش «الإسرائيلي» بعجزهم عن وضع حد لها، بل وعن تصور نهاية قريبة لها. وفي وقت كان التنظير «الإسرائيلي» طول الفترة السابقة، يقوم على فرضية أن «اليأس» هو السبب والدافع الرئيسي وراء الهبّة، بدأ التراجع عن هذه الفرضية يظهر على ألسنة بعض غلاة المتطرفين منهم. وآخر هؤلاء كان نفتالي بنيت زعيم البيت اليهودي، وزير التربية في حكومة نتنياهو الرابعة، وأقوى وزرائه، الذي اعترف في تصريح علني بأن الفلسطينيين «لا ينفذون عملياتهم ضدنا لأنهم يائسون، بل لأنهم يأملون من خلالها أن تغير «إسرائيل» معاملتها لهم»! ويبدو أنه لم يخطر بباله أن الهدف هو إنهاء احتلالهم البغيض!
أما المفاجأة الكبرى التي حملتها الأيام الأخيرة من الهبّة الباسلة، فهي تلك التي فجرها الشرطي الشهيد أمجد السكري عند حاجز مستوطنة بيت إيل، قرب رام الله، فأصاب ثلاثة من جنود الجيش «الإسرائيلي».

وبرصاصاته، أسقط الشرطي الشهيد «منظومة دايتون» و«الفلسطيني الجديد»، الذي حلم به، وأسقط أيضاً، سياسات «التنسيق الأمني» غير المقدس، وأظهر «الفلسطيني الجديد»، كما الفلسطيني القديم، الذي لن يتوقف عن مقاومة الاحتلال حتى يرحل!