عبدالمحسن جمعة

دقت ساعة الحقيقة وسقطت الأقنعة في المأساة السورية، عندما انتفضت واشنطن لتدافع عن حلفاء بشار الأسد الأكراد من قوات الحماية الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (قوات سورية الديمقراطية) الذي يقوده حليف بشار الأسد وإيران وحزب الله المشارك في جرائمهم صالح مسلم، وصُدمت أنقرة من تصريحات إدارة باراك أوباما التي تركت حليفاً تاريخياً مثل تركيا كان ومازال يصون الجبهة الجنوبية لحلف الناتو طوال عقود من الحرب الباردة لمصلحة عصابات كردية تقوم بأفعال إجرامية ضد الشعبين السوري والتركي.

أنا أيضاً، ومثلي كثيرون، مستغربون ومصدومون لأن الأتراك بكل قدراتهم وإمكانياتهم لم يكتشفوا طوال السنوات الماضية ما يفعله الإسرائيليون والأميركان وبعض الأوروبيين من تجهيز ودعم للأكراد لغايات مبيتة، في كردستان العراق وسورية، لإنشاء دولة كردية تضعف القوى السنية في تركيا وسورية والعراق، ولم أصدق أن تركيا لا تعلم كذلك أن ما يفعله الروس في سورية هو بتفويض من الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن الآلة التي تقتل وتدمر في سورية هي "عربة أميركية–أوروبية بقيادة روسية".

أما الحديث عن جنيف 2 و3 و4، فهي عملية إلهاء وتبادل أدوار ينسقها مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا، ويغطيها الأوروبيون المنافقون كما أسماهم رئيس الوزراء التركي داود أوغلو حتى تتم المهمة وتصبح الدولة الكردية واقعاً على حدود تركيا، وكانتون العلويين جاهزاً، وتبقى بقية أراضي سورية مرتعاً لتقتيل "داعش" صنيعة إيران وأميركا ونظام الأسد وبعض متخلفي السنة، ولتستكمل دول التحالف قصفها الانتقائي للمناطق السورية الحرة بحجة ملاحقة الإرهاب، وهو العنوان الذي يكرره عميلهم في دمشق الأسد الصغير.

أوروبا المنافقة تطلب من تركيا فتح حدودها لاستقبال اللاجئين السوريين، ولكنها لا تتحدث ولا تدين المتسبب الروسي وشريكه الأسدي بهمجيتهما ووحشيتهما، والأوروبيون أنفسهم مع أميركا يصرخون تنديداً ويهرولون لتقديم السلاح والعتاد إذا مسّ الأكرادَ شيءٌ، ولكنهم لا يرون من يقصف مدارس ومستشفيات السوريين العرب ولا يقدمون إلى مَن يتعرض لهذه الجرائم شيئاً للدفاع عن نفسه، وذلك بالتأكيد نتيجة لأن الأكراد مع غالبية العلويين وافقوا على أن يكونوا أداة التقسيم والتفتيت الجديدة للإقليم، خاصة أن الغرب المسيحي لن يسمح أن تنهض تركيا من جديد كقوة اقتصادية وعسكرية في المنطقة، ولن يسمح أيضاً حليفهم الإسرائيلي أن يسقط نظام الأسد الحامي لهدوء حدوده منذ أكثر من أربعين عاماً.

جميع الأقنعة في الأزمة السورية سقطت، ولكن متأخرة، وأصبحت الأدوار المرسومة واضحة، وربما مخططات وقف إطلاق النار والهدنة ستكون فاصلاً زمنياً قصيراً ستسبقه وتتلوه تحركات خاطفة ومؤثرة، كما حدث في القرم، للاستيلاء على أراضي تثبت حدود دولة العلويين، ومستعمرات الأكراد في القرى والمدن العربية لضمها إلى الدولة الكردية الموعودة، وبقاء «داعش» في مساحة خلفية لضرب وإشغال أي قوة سورية معتدلة تحاول التحرك لتحرير أرضها ومقاومة التقسيم الجديد، وليبقوا "داعش" سبباً لاستمرار دك المناطق السنية بالقصف الأميركي حتى ينهار السُّنة ويستسلموا تماماً للهيمنة الإيرانية عليهم الممتدة من العراق عبر الموصل بعد تدميرها ودخول الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني إليها.

لذا وفي ظل هذه المعطيات فإن الحديث عن تدخل تركي- عربي في الأراضي السورية لمواجهة الأسد وحليفته روسيا في ظل الاتفاق والتنسيق الروسي– الأميركي هو أمر بالغ الصعوبة وربما مستبعد، وكان يجب أن يتم منذ سنوات، ولكن نجحت واشنطن في خداع تركيا والعرب لمنعهم من ذلك حتى وصلت الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم، والتي ستجعل معاناة وكلفة الثورة السورية باهظة وطويلة، وتجعل تركيا تواجه تطورات خطيرة تهدد كيانها وخريطتها الوطنية الحالية.