&هاجس المشروعية دفع الأنظمة المتعاقبة منذ الصفوية للتبشير بقيام حكومة «المهدي»
عادل السالمي
في أعقاب الانقلاب العسكري 1953 الذي أطاح بحكومة رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، أرسى محمود تولائي، المعروف بالشيخ حلبي، قواعد الجماعة الحجتية. ومنذ لحظة التأسيس لم يتوقف الجدل حول هوية الجماعة التي يلف نشاطها الكثير من السرّية والغموض. وللعلم يُعد محمود حلبي من اتباع ميرزا مهدي إصفهاني، مؤسس مذهب التفكيك (خراسان) في الحوزة العلمية التي كانت أعادت شيوخ خراسان للتنافس مع حوزات قُم والنجف. واليوم نسلّط الضوء على هذه الجماعة التي خرج من تحت عباءتها عدد من الشخصيات التي تقلدت مناصب مسؤولية في نظام «الجمهورية الإسلامية» الخميني في إيران.
لم تكن الأحداث في إيران، منتصف القرن الماضي مقتصرة على الشارع السياسي وتحولاته، إذ كان قد سبق ذلك على الصعيد الديني يقظة حوزة قم العلمية بعد 200 عام من السبات وسيطرة حوزة نجف على زمام الأمور في البيت الشيعي. وكانت عودة المرجع الشيعي عبد الكريم الحائري اليزدي في 1921 من النجف إلى قم بداية الاتجاه الجديد في الحوزات العلمية لتشهد العقود الأربعة اللاحقة، أي حتى وفاة آية الله بروجردي في 1961، صراعًا شرسًا بين المرجعية في النجف وقُم لزعامة البيت الشيعي. ومنذ عودة الحوزة العلمية إلى بلاد فارس بدأت المرجعية هناك وعلى رأسهم حسين علي منتظري تدشين فكرة «الولي الفقيه» بدلاً من «شورى الفقهاء» في النجف.
لكن الصراع في البيت الشيعي لم ينحصر تلك السنوات على المدينتين التقليديتين في المذهب بعد صعود موجة ثالثة تمثلت بخروج مذهب التفكيك من عباءة قم في خراسان، الذي أعطى الأفضلية للفقه والشرع ودعم الفلسفة والعقل إلى جانب العرفان والأخلاق. وكان السيد جواد خامنئي، والد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وسيد هاشم نجف آبادي، جد خامنئي لجهة والدته، وكذلك محمد تقي شريعتي والد المفكر الدكتور علی شریعتي، وآية الله السيد محمود طالقاني من بين أبرز رجال الدين في مذهب التفكيك.
هذا، وتذكر الفقرة الأولى من البيان التأسيسي للجماعة أن الحجتية تركز على العمل الثقافي ولا تتدخل في الأمور الدينية وأن أهدافها تبقى راسخة حتى ظهور «المهدي المنتظر». وتؤكد الفقرة الثانية على أن الحجتية لا تتدخل في القضايا السياسية، ولا تتحمل مسؤولية المواقف السياسية من قبل منتسبيها. ويقول المفكر الإيراني عبد الكريم سروش، الذي خاض تجربة الحجتية لفترة قصيرة، إنها من أبرز الجماعات الدينية التي كانت تروج للعقائد المهدوية قبل الثورة، كما أن أعضاءها يتبنون العقيدة المهدوية في النشاط اليومي والسلوك الشخصي.
من ناحية أخرى، تشوب علاقة الحجتية بـ«ولاية الفقيه» حالة من الغموض إذ يذكر العضو السابق في الحجتية عماد الدين الباقي في كتابه الشهير «حزب قاعدين الزمان» أن الحجتية في ملحق ميثاقها بعد الثورة الإيرانية تعترف بـ«الولي الفقيه» رغم أن الخميني اعتبرهم خطرًا على وجوده، ووجه أوامر بوقف نشاط الجماعة. ويُعد «حزب قاعدين الزمان» النافذ من الأسواق منذ سنوات، أحد أهم المصادر المكتبة الإيرانية حول «الحجتية» ونشاطها الفكري والآيديولوجي، كما يعد بين الكتب عنه الأكثر مبيعًا في تاريخ إيران بعدما تجاوزت مبيعاته في طبعاته المتعددة 85 ألف نسخة.
هذا، وسرعان ما أدى موقف الجماعة من «ولاية الفقيه» إلى صدام مع المرشد الأعلى الأول آية الله الخميني. وكان إشارة واحدة ضد الجماعة كافية لإعلانها تجميد النشاط. الجماعة اتهمت من قبل حاشية الخميني بعرقلة الأمور والدعاية المضادة للثورة، كما أدى النزاع بين الحجتية والجماعات المعارضة لها إلى اشتباكات في شوارع عدد من المدن، حتى إن الخميني هاجم الجماعة في عيد الفطر 1984 قائلا: «جماعة مشروعها إشاعة الفساد حتى يظهر المهدي، لكن لماذا يأتي المهدي؟ هو يأتي حتى تزول المعاصي ونحن نرتكبها حتى يأتي؟ احذفوا هذه الانحرافات.. إذا كنتم وطنيين احذفوا الفئوية من أجل بلدكم.. واكبوا التيار ولا تسيروا خلافه فإنه يكسر أعضاءكم».
وبحسب المصادر الإيرانية فإن الجماعة الحجتية نشطت في عام 2004 وسط المناطق السنّية في إيران للضغط على أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، وذلك عبر توزيع مؤسسات، مقرها قُم، مئات الكتب والمنشورات المسيئة للصحابة والخلفاء بجانب وإساءات لأتباع المذهب السنّي ما أدى إلى غضب واستياء شعبي بين الأوساط الشعبية في تلك المناطق، خاصة بلوشستان.
جدير بالذكر، أن العقيدة المهدوية وعلاقتها بمدارس الدينية الإيرانية على مدى مئات السنين ظلتا مثار جدل ونقاش وخلاف عميق بين المراجع وأتباع تلك المدارس. ولقد كان هاجس البحث عن المشروعية لدى الأنظمة والعقوبات المتعاقبة دفع هذه الأنظمة للجوء إلى شعار «لكل أمة دولة ودولتنا في آخر الزمان». وهو أبرز شعار رفعته التيارات المهدوية منذ الحقبة الصفوية. ومن ثم، استمر الوضع على ما هو عليه مع تناوب الأنظمة وتغيير الخريطة السياسية والفكرية والإنسانية في إيران، وكان تأثير تلك القضايا على عامة الناس على علاقة وثيقة بقرب أو ابتعاد تلك المدارس من السلطان ودوائر صنع القرار.
توتر العلاقة بين الجماعة والخميني، كما سلف، دفعها إلى العمل في الهامش واللعب في الباحة الخلفية لـ«الولي الفقيه». لكن الجماعة منذ ذلك الحين وطّدت علاقاتها بالسياسيين وتقلدت شخصيات تخرجت في مدارس الحجتية، مناصب رفيعة في النظام كان أبرزهم آنذاك قائد الجيش السابق اللواء محمد سليمي الذي عُزل بأوامر آية الله الخميني من قيادة الجيش. ولكن علي خامنئي عاد فعينه مستشارًا عسكريًا، واحتفظ سليمي في منصبه حتى وفاته في يناير (كانون الثاني) 2016، ويعدّ سليمي أحد أبرز دعاة الحجتية في الجيش الإيراني، ولا سيما، لإدخاله عددا من كبار من الضباط وأسرهم إلى الجماعة.
ولقد جدّد أحمدي نجاد وتياره خلال السنوات الأربع الأولى من رئاسته خطاب المهدوية عبر تنظيم مؤتمرات دولية. كذلك شهدت دورته نشاطا واسعا للجماعات التي تتحدث عن ظهور «المهدي». وبعد وصوله إلى دوره رئاسية ثانية كشفت صحيفة «ابتكار» في 2009 عن تقديم الجماعة الحجتية طلبا رسميا لإعادة نشاطها بشكل علني وربط الصحيفة عودة الحجتية بدعم بعض مراجع الشيعة لخطاب المهدوية وخاصة الأب الروحي لأحمدي نجاد، عضو رابطة حوزة قم العلمية، محمد تقي مصباح يزدي الذي يعتبره النقطة المقابلة لهاشمي رفسنجاني. وفي الوقت نفسه كثر الحديث عن تيار «منحرف» في إشارة إلى دور رحيم مشائي في إعادة تنظيم الحجتية في جماعة جديدة أطلقت على نفسها «طريق الحقيقة»، وأسست مراكز لها في عدد من المدن الكبيرة.
وبدورها تساءلت مجلة «مهرنامه» الفكرية والثقافية المرموقة في إيران ضمن ملف خاص عن حقيقة عودة الحجتية، واستندت المجلة إلى تصريحات مؤسس جماعة «أنصار حزب الله» الإيرانية، حسين الله كرم الذي كشف فيها أن جماعة مشائي تعتقد بقرب ظهور «المهدي المنتظر»، كما كشف عن مخططات تلك الجماعات التي تؤمن بقرب ظهور المهدي في أربع دول عربية هي مصر والمملكة العربية السعودية والأردن واليمن.
في هذه الأثناء، كان وزير الداخلية الإيراني الأسبق علي أكبر محتشمي بور قد اتهم في حوار مع صحيفة «اعتماد» في 2009، الجماعة الحجتية بالوقوف وراء قمع «الحركة الخضراء» التي اندلعت في عدد من المدن الإيرانية، وتحدث محتشمي بور عن تمدّد الجماعة في مفاصل النظام الإيراني، وادعى أنها جمعت عددًا كبيرًا من المثقفين وأساتذة الجامعات والطلاب الواعدين، وزعم لجوء الجماعة إلى إرهاب الشخصية أو الحذف المباشر في تعاملها ضد المعارضين. ومما قاله محتشمي بور في ذلك الحوار أن الحجتية «تجاوزت كل الخطوط الحمر، ويصعب التصدي لها. الله وحده يمكن أن يساعد وهو ما حذر منه الأمام الخميني، اليوم هي نار تحت الهشيم».
ختامًا، يتسّع الصراع في إيران على السلطة بين المذاهب والمدارس الفكرية في الفترة الأخيرة، ولعب هاشمي رفسنجاني، الذي يعتبر من أنصار خط الخميني، في ملعب الجماعة الحجتية عبر طرحه مشروع «شورى الفقهاء» كبديل محتمل للنظام الإيراني إذا ما غيب الموت خامنئي. إضافة إلى ذلك يستدعي الدور الإيراني في سوريا والعراق واليمن وتدخلاتها الواسعة في الدول العربية، الوقوف والاطلاع على خلفية الآيديولوجية المسيطرة على هيكل النظام الإيراني. ثم إن حديث قادة الحرس الثوري وكبار المسؤولين الإيرانيين عن التمهيد لظهور «المهدي المنتظر» عبر التدخل العسكري في أكثر من منطقة من الشرق الأوسط وحشد جماعات متطرفة من أجل أهداف آيديولوجية - فضلا عن الصراع الواسع بين المراجع والمدارس الدينية - أمور تثير الكثير من علامات الاستفهام حول دور الجماعة الحجتية وعشرات الجماعات المؤدلجة في الفوضى التي تشهدها دول المنطقة.
&
&
التعليقات