&نامت على حرير«المال السياسي» ولم تلتقط إشارات «الثورة الرقمية»: أي مصير ينتظر الصحافة اللبنانية بعدما فقدت دورها؟

&

رلى موفّق

&&الصحافة اللبنانية في مأزق، تُعاني صعوبات مالية ومهددٌ بعضها بعدم القدرة على الاستمرار. ولكن السؤال المحوري الذي لا بد من طرحه هو: هل إن المأزق يقتصر فقط على الصحافة اللبنانية؟ أم أننا أمام تحوّلات كبرى فرضت نفسها على الصحافة الورقية مع الثورة التكنولوجية التي أسهمت في خلق وسائل اتصال وتواصل حديثة وتدفق للمعلومات عابر للحدود والزمان والمكان، بحيث أضحى العالم الافتراضي مساحة رحبة ومفتوحة للصحافة الإلكترونية التي تشكّل اليوم التحدي الأبرز لحفيف الورق وحنين ملمسه ورائحة الحبر العابقة منه.

ففيما كان إعلان جريدة «السفير» لقرارها بالتوقف عن الصدور مع الأول من نيسان الحالي، يشغل المتابعين، كانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تُعلن عن توقف نسختها الورقية وتوجهها نحو الصحافة الرقمية، وبكلمات بسيطة مُعبّرة طوت حقبة من تاريخها. أقفلت على الزمن الغابر، لكنها لم تمض إلى غياهب النسيان بل إلى مستقبل جديد ينتظرها. قالت: «اليوم توقّفت المطابع، وجفّ الحبر، وقريباً لن يُصدر الورق حفيفاً. لكن مع إغلاق فصل يُفتح آخر، وستواصل روحية الإندبندنت الازدهار».

هنا بيت القصيد. تُطوى صفحة لتُفتح صفحة جديدة. إنه العالم المتغيّر حيث لا مكان للسكون، للبُهتان وحتى لرمشة العين، عالم تحكمه سرعة الحركة… سباق من نوع آخر يقاس بالثواني. في لمحة بصر ينتشر الخبر في كل أصقاع الأرض… بفضل «ثورة الاتصالات» والعولمة التي أصبح معها ما يدور في هذا الكون وعلى هذه الأرض في متناول اليد، لحظة بلحظة، مع تطور وسائل التواصل وانضمام الهواتف الذكية الموصولة بـ «الانترنت» إلى شقيقاتها من الألواح الذكية والكومبيوتر المحمول.

هذا التحوّل الكبير فاجأ الجميع. ولا يتعلق الأمر اليوم بظهور الصحافة الرقمية بديلاً للصحافة الورقية، بل بسبر أغوار الوظيفة الجديدة التي على الصحافة الرقمية نفسها أن تقدمها، وهي حكماً لا تقتصر على نقل الخبر والمعلومة. فكيف الحال بالصحافة الورقية.

أزمة الصحافة اللبنانية أنها أهملت ما يدور من تحوّلات حولها، وتأخرت عن فهمها. استكانت لواقعها، وللدور الذي كانت تلعبه، في نظرة اتسمت بالقصور من جهة، والعجز من جهة ثانية.

فصحافة لبنان، ولا سيما في العهد الحديث، تندرج في خانة الصحافة الليبرالية التي لم تكن يوماً صحافة مموّلة من الدولة، تموّلها وتُحدّد موازنتها وتغطي عجزها وترعاها وتدير توجهاتها السياسية. كانت الصحافة، ولا تزال، صحافة تعود لعائلات وأفراد وتنطق بلسان صاحبها ومحسوبة في غالبيتها على الطائفة التي ينتمي إليها، تعكس مشاريع سياسية تحتدم أحياناً وتتناغم أحياناً أخرى، فضلاً عن الصحافة الحزبية التي تنطق بلسان أحزابها.

يروي كثيرون ممن رافقوا تاريخ الصحافة اللبنانية أنها كانت منذ نشوء لبنان الكبير، وزمن الانتداب الفرنسي منذ عشرينيات القرن الماضي وإلى مرحلة الاستقلال عام 1943 وما تلاها، تصدر بإمكانات متواضعة وبفريق عمل صغير وطباعة بسيطة، فكان المبيع يغطي تكاليف الجريدة، ما حوّل القارىء إلى مموّل رئيسيّ للصحيفة. ولكن مع تطوّر صناعة المطابع والحاجة إلى الالتحاق بركب طور التحديث الحاصل في فن الطباعة، بدأت الصحف اللبنانية، منذ الخمسينيات، باعتماد الآلات المطبعية الحديثة، وكانت يومها «مؤسسة سعيد فريحة» التي تصدر عنها جريدة «الأنوار» ومجلتا «الصياد» و «الشبكة» وغيرها من المطبوعات، السبّاقة في هذا المجال، وكرّت معها السبحة لاحقاً إلى جريدة «النهار» ومثيلاتها من الصحف، وهو الأمر الذي زاد من الأعباء المالية للصحف، والتي ترافقت مع اتساع مساحة التوزيع والانتشار لتتخطى الحدود إلى الخارج. لم يكن الاعتماد، في تلك المرحلة، على المداخيل المتوفرة من مبيع الأعداد إلى القرّاء، بل شكّلت الإعلانات جزءاً من كلفة الأعباء. لكن جزءاً من التمويل كان في تلك الآونة قد ارتبط بتحوّل الصحافة اللبنانية إلـــى جزءٍ من أدوات الصراع بين المــشـــاريع السياسية في المنطقة.

دخل تعبير «المال السياسي» إلى الصحافة اللبنانية مع بروز الرئيس المصري جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي كظاهرة تخطت حدود الدولة الوطنية إلى مشاريع وحدوية تحت شعارات الأنظمة «التقدمية» في مواجهة الأنظمة «الرجعية». التكتلات السياسية اللبنانية كان لكل منها صحافتها، والأحزاب اللبنانية قاطبة، من أقصى اليمين إلى الوسط فأقصى اليسار، حظيت بصحفها، وشهدت تلك الصحف، وفق سياستها، مرحلة طويلة من الاصطفافات على وقع الأحداث التي عصفت بالمنطقة بدءاً من انقلاب عبد الناصر في مصر وما عُرف بـ «ثورة الضباط الأحرار»، إلى الوحدة المصرية ــ السورية في 1958 والانفصال في 1961، إلى حرب اليمن عام 1962 التي جسّدت الصراع بين مصر والمملكة العربية السورية، فاستيلاء «حزب البعث» على السلطة في سوريا عام 1963 وفي العراق عام 1968، وما بين التاريخين من نشوء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 مروراً بالحدث الأهم والأبرز المتمثل بنكسة 1967، فالانقلاب عام 1969 في ليبيا، وصولاً إلى حرب أكتوبر 1973، فالحرب اللبنانية التي امتدت على مدى 15 سنة.

فحتى بداية الحرب الأهلية في لبنان، كانت أكثر من عشرين مطبوعة تصدر يومياً. يذكر الجيل المخضرم من اللبنانيين أسماء صحف رافقتهم في نشأتهم وشبابهم ولا تزال في الذاكرة، مثل «لسان الحال» و «المحرر» و «الجريدة» و «بيروت المساء» و «اليوم» و «الشمس» و «الهدى» و «الشعب» و «الحياة» و «الأخبار» و «الجمهورية» و «السفير»، والتي توقفت في غالبيتها لوفاة مؤسسيها، فيما تلاشت الجرائد الحزبية مثل «النداء» الناطقة بلسان «الحزب الشيوعي» و «العمل» الناطقة بلسان «حزب الكتائب» و «الأحرار» التابعة لـ «حزب الوطنيين الأحرار» و «الأنباء» التي تعود لـ «الحزب التقدمي الاشتراكي»، لتحلّ محلها الإذاعات الحزبية التي كان أثيرها يخترق الحواجز الإسمنتية. واستطاعت صحف «النهار» و «الأنوار» و «اللواء» و «الشرق» و «الأوريان لوجور» الاستمرار في الصدور، فيما عادت «السفير» إلى الصدور عام 1974 بعدما اشترى امتيازها الصحافي طلال سلمان بـ «المال السياسي»، وهو الذي صقل تجربته في عدد من المطبوعات اللبنانية والعربية مناصراً «للقضية الفلسطينية ونضال الشعوب والفكر التقدمي وأحلام القومية العربية»، وفق تعبير أحد الذين عرفوه. وانضمت صحف جديدة إلى السوق الإعلامية بعيد انتهاء الحرب مثل «الديار» و «المستقبل» و «البلد» وعادت « الديلي ستار» الناطقة بالإنكليزية إلى الصدور، وكذلك «الجمهورية» و «الحياة» إنما بملكية جديدة و»الأخبار» بإدارة وتوجّه سياسي مختلف، فيما غابت «البيرق» مع وفاة مالكها نقيب المحررين السابق ملحم كرم.

وعلى رغم بروز الإعلام المرئي، في تسعينيات القرن الماضي، على الساحة اللبنانية مع نشوء عددٍ من المحطات التلفزيونية ضمن أطر المحاصصة السياسية والحزبية والطائفية، فإن المطبوعات اليومية والأسبوعية استطاعت أن تصمد وتستكمل مشوارها المهني. وما ساهم في ذلك استمرار تدفق المال السياسي، سواء من ليبيا والعراق وسوريا ومصر ودول الخليج أو مما حمله رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري من مشروع سياسي ــ اقتصادي للبلد بعد انتهاء الحرب وبدء مسيرة إعادة الإعمار، حيث ساهم في دعم الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، بالتوازي مع المؤسسات الإعلامية التي أنشأها، والمتمثلة بـ «تلفزيون المستقبل» و «جريدة المستقبل» و «إذاعة الشرق»، فضلاً عن مساهمته بنسبة من أسهم «جريدة النهار» ومطبعتها.

على أن الأزمة الصامتة بدأت بالظهور بعد اغتيال الحريري عام 2005، ودخول لبنان مرحلة جديدة بُعيد الخروج السوري من لبنان والانقسام السياسي الذي حصل والذي عكس في جوانب منه الصراع الإقليمي في المنطقة. ومع سقوط نظام صدّام حسين في العراق، والربيع العربي الذي أطاح بالأنظمة الحاكمة في ليبيا ومصر وتونس، انتفت إمكانات الدعم المالي مع تبدّل المشاريع السياسية التي كانت تحكم تلك البلدان.

تلك العوامل شكّلت تحديات لم تكن متوقعة لدى الإعلام اللبناني، ولا سيما الصحافة الورقية. وزاد عليها فقدانها للدور الذي لعبته بديلاً عن صحافة الخليج، ذلك أن تلك الدول استطاعت أن تخطو خطوات متقدمة في صحافتها المحلية، إلا أن الأهم من ذلك أنها ذهبت مباشرة إلى بناء أمبراطوريات إعلامية مموّلة من قِـبَـلها وتُعبّر عن سياستها، وساهم في ذلك التحوّل الكبير الذي طرأ على الإعلام المرئي مع بروز الفضائيات والقدرة على نقل الأحداث عبر الأقمار الاصنطاعية من مكان الحدث لحظة حدوثه. إذ بدا واضحاً حجم التحوّلات التي حصلت في عالم الإعلام المرئي مع «حرب الخليج» عام 1990، حيث كانت يومها شبكة «سي.أن.أن.» الأميركية تبث مباشرة عملية تحرير الكويت، ومعارك «قوات التحالف»، الذي شكل يومها «ثورة حقيقية» على مستوى المشهد الإعلامي. وأضحت اليوم قنوات عربية عدّة، وفي مقدمها قناة «الجزيرة» القطرية وقناة «العربية» السعودية ذات تأثير واسع وانتشار كبير، ومعها أصبحت تلك القنوات قادرة على نقل الرسائل المباشرة من دون وسائط.

ربما يصحّ القول أن الأزمة في الصحافة اللبنانية باتت اليوم أزمة وجودية، في ظل الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعانيها البلاد وتراجع نسبة الإعلانات فيها والتي تشكل مصدراً من مصادر التمويل، نظراً لاتجاه المعلن إلى وسائل إعلانية أقل كلفة وأكثر فاعلية وانتشاراً، من اللوحات الإعلانية إلى الإعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، فضلاً عن الصحافة الرقمية أو الالكترونية التي لا يزال أصحاب الصحف غير قادرين على مواكبتها، ذلك أن المسألة لا تنحصر في إنشاء موقع الكتروني للجريدة فحسب، بل تتخطاها إلى خلق منظومة متكاملة ذات مفهوم جديد ورؤية متقدمة تُخرج المطبوعة من حال السكون الذي تعيشه إلى حال متحركة. بات الأمر يتعدى الخبر ونقله. إنها مسألة تتطلب الاندماج في العالم الرقمي وإتقان وسائله وأدواته، والقدرة على التفاعل السريع والمستمر مع الخبر أو الحدث في شكل مُبدع ودينامية خلاقة بحيث يتكامل الخبر مع الصورة والفيديو والروابط المفيدة ومساحة التعليق والتفاعل.

أين الصحافة اللبنانية من كل ذلك؟ إنها بعيدة بشكل كبير! وإن كانت جريدة «النهار»، التي تعاني من صعوبات مالية ويرزح صحافيّوها تحت وطأة الأعباء الحياتية الضاغطة مع انقطاع رواتبهم لأشهر، قد سجلت قفزات لافتة على مستوى الصحافة الالكترونية، إلا أنها لا تزال، وفق أحد أركانها القدامى الذين أضحوا خارجها، تتلمس طريقها، ولا تبدو رؤيتها المستقبلية واضحة، ذلك أن التحدي يكمن في الحفاظ على المستوى المهني الرفيع وتقديم المادة الجدّية والرصينة القادرة على جذب القارئ، من دون أن تتخلى عن دورها المؤثر في الرأي العام ورسالتها الحقيقية في التصدّي للقضايا الأساسية التي تمسّ المواطن في بيئته وحياته وصحته وتعليمه وفي صون حريته.

يقول أحد كبار الصحافيين الذي استشرف باكراً مسلتزمات العصر الالكتروني إن أصحاب الصحف قد يستفيقون يوماً على خبر غير سار: «لقد قررت شركات صناعة الورق أن تتوقف عن تصنيع الورق المستخدم لطباعة الصحف، كما قررت كبريات المصانع التوقف عن صناعة الآلات الطباعية المتخصصة». هذا سيجعل الصحافة الورقية من التاريخ بغير إراداتهم. إنه خبر غير سار بالتأكيد إذا حصل، لكن ما قد يجعله قليل الوطأة إذا لم يؤخذوا على حين غرّة!