&انتصار البناء

في قصص نجاح الدول النامية نحو الوصول إلى مصاف الدول المتطورة تصنيعاً وتنمية وإنتاجاً، لم تستغرق عملية التحديث في الدولة وبناء عملية التقدم أكثر من عشرين عاماً في معظم الدول. ويمكن دراسة النماذج الآسيوية مثل ماليزيا وسنغافورة وكوريا في هذا المجال ليتأكد لنا أن موضوع النقلات الحضارية لا يتجاوز في عمر الأمم عمر جيل من واحد فقط.

وفي المقابل حين نتأمل تجارب الدول العربية سنجد أن أغلبها قد بدأت انطلاقتها الحضارية نحو عصر الحداثة بعد موجات الاستقلال في الخمسينات من القرن المنصرم. أي في الوقت ذاته الذي بدأت دول ما صار يسمى بالنمور الآسيوية، نهضتها وبعد أكثر من نصف قرن تراجعت جميع الدول بدون استثناء في جميع المجالات وصارت الدول الآسيوية منافسة شرسة للدول الأوروبية المنتجة، وصارت دولاً تهدد الاقتصاد الأمريكي؛ الأمر الذي ترتب عليه تشكيل التحالفات والتكتلات الحالية التي تعمل على إعادة تشكيل موازين القوى وإعادة تصنيف الأقاليم العالمية من حيث قوة التأثير.

وعلى الرغم من أن عمليات التحديث والتطوير ليست بالأمر الهين إلا أن الإطار العام لاستراتيجياتها لا يبدو مستحيلاً!. فنهضت الدول الآسيوية في العقود السابقة، وما تحاوله دول أمريكا اللاتينية في السنوات الحالية يعتمد على حصر الثروات الاقتصادية في البلد وتحفيز الثروة البشرية ووضع برنامج عمل صحيح يؤدي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمشروع النهضوي وتقييم النتائج مرحلياً عبر أدوات متابعة ومحاسبة فاعلة. والسؤال القديم المتجدد الذي يطرح نفسه دائماً في الواقع العربي: هو لماذا نحن لا ننهض؟ لماذا نتراجع في الوقت الذي نرى الجميع فيه يتقدم بخطى واسعة ومنهجية سلسة؟

وقد تتعدد الإجابات، وقد تتكرر أحياناً في نطاق أن دولنا العربية مستهدفة منذ وقت الاستعمار، وأن الاستعمار ترك مساميره مثبتة على حوائطنا يعود للضرب عليها بين الفينة والأخرى لأسباب متعددة. وبرغم ما أثبته الواقع من وجاهة (نظرية المؤامرة)، غير أن المؤامرات على أمتنا العربية ما كانت لتجد ممرات واسعة تسلكها لولا وجود مشروع آخر في الوطن العربي بديلاً عن مشروع التحديث هو مشروع الفساد.

نعم، يستطيع المراقب أن يحكم بأن الفساد قد صار مشروعاً مكتمل الأركان نتيجة النجاح الواضح لهذا المشروع. فالهدف الاستراتيجي لمشروع الفساد هو إعاقة تطور الدولة وتقدمها كنظيراتها من الدول في العالم بصورة تجعل المواطن العربي يشعر بالخجل حين يسافر إلى الدول الغربية أو الشرقية ويقارن حال تلك الدول بحال دولته. ويتبادر دائماً إلى أذهان المواطنين العرب سؤال حول شعور المسؤولين العرب وهم يقصدون تلك الدول المتقدمة، التي كان بعضها زميلاً في تصنيف الدول النامية، ألا يشعر مسؤولونا العرب بالخجل وهم يشاهدون التقدم والتطور في تلك الدول؟

وأهم وسائل تحقيق أهداف مشروع الفساد العربي هو تجريف الثروة البشرية. بإضعاف التعليم العام والعالي وتضييق مجالات البحث العلمي، وتهميش المبدعين والمخترعين وأصحاب الكفاءات. ولإنجاح تلك الوسيلة تعمد أدوات الفساد في الدولة على نهب الثروات ليتم التذرع بأن الميزانيات المخصصة للخدمات محدودة وأن الدولة تعاني الديون الخارجية والتضخم و... وعليه، فإن على المواطن العربي «مد اللحاف على قد رجليه» أو أقل.

إن تجريف الطاقات البشرية وتجريف الثروات الاقتصادية الذي تعرضت له الدول العربية في الثلاثين عاماً المنصرمة يعد إنجازاً مذهلاً لمشروع الفساد. ويعتبر نجاحاً فائقاً نتج عنه العجز الحقيقي الذي واجهته أغلب الدول العربية في محاولات النهوض المتواضعة الحالية التي كان أغلبها بمبادرات أهلية. فقد أصبحت الأمة العربية مكبلة بالديون وبالارتباطات الاقتصادية التي تستنزفها وبالمشروعات الاقتصادية غير المكتملة التي ليس لها مصير إلا الفشل. وتفككت النخب العربية وتعرض بعضها للتشويه النفسي والفكري نتيجة التجارب المؤلمة التي تعرض لها المواطن العربي في كثير من الدول. حتى أن المرء ليقف أمام الانهيار في بعض المجالات ولا يجد إلا الاقتناع بالوضع الحالي كحل بديل آمن عن أي مغامرة قد تؤدي إلى استمرار التدهور.

ومع كل ذلك يبقى في دولنا العربية ذخيرة كبيرة من الثروات الطبيعية والبشرية يمكن إعادة ترميمها في الفترة الزمنية ذاتها التي احتاجت إليها بعض الدول النامية لتتحول إلى دول متقدمة. ولكن المسألة تحتاج أولاً إلى إسقاط مشروع الفساد وتفكيك أركانه. وهذه العملية هي التي ستكون الأصعب في تاريخ دولنا في هذه المرحلة. فقد تجسد الفساد عبر مجموعة كبيرة من المنتفعين داخل دولنا الذين يرتبطون بشبكة علاقات محلية وإقليمية تجعل بعضهم يملك نفوذاً مؤثراً داخل القرار السياسي في الدولة. ومافيا الفساد المسيطرة على الوطن العربي لن تتنازل عن مكاسبها وإنجازاتها بسهولة وتسلمها طواعية للآخرين. ولن تفك قبضتي يدها عن ثروات بلداننا التي صارت حكراً عليها تديرها كيف تشاء ثم تدخر الأرباح والفوائض في البنوك الخارجية وفي صفقات فساد وغسيل أموال كالتي كشفت عنها وثائق (بنما) الجديدة.

الربيع العربي الذي يحلم به العرب لن يأتي على صهوة فاتحين من الغرب. ولن يأتي بإسقاط الدول والأنظمة. سيأتي بترتيب أوضاعنا الداخلية واقتلاع مكامن الخلل فينا ومحاربة الفساد وتولية أصحاب الكفاءات والولاءات الوطنية لمقاليد إدارة البلدان. الربيع العربي سيزهر حين يهتف العرب: الشعب يريد إسقاط الفساد.