&كمال بالهادي
لطالما كانت مؤسسة دار «الخليج»، منارة إعلامية تحقق الإضافة النوعية والامتياز للقارئ الذي يبحث عن الآراء الحرّة والأفكار العميقة والنقاشات الفكرية التي تنفض الغبار عن أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العربي، خاصة في ظل هذه التحولات الكبرى التي تمر بها المنطقة، وهي تحولات تعصف بكل المفاهيم، وتقلب الطاولة رأساً على عقب، ولا يمكن التنبؤ بمآلاتها، وبما ستستقر عليه الأوضاع.
وفي هذا المناخ العربي العاصف، يأتي المؤتمر السنوي لمركز «الخليج» للدراسات، ليثير قضية القضايا، وأمّ البلايا، إن صح التعبير، وهي «علاقة الدولة بالمجتمع». فهذه الإشكالية التي سيتناولها المساهمون في أشغال المؤتمر، هي العماد الذي ينهض بإحدى الوظيفتين، فإما الارتقاء بالشعب إلى مصاف الشعوب المتقدمة وقيادتها إلى أرقى درجات الرقي الحضاري والتقدم المعرفي، وإما أن تتسبب هذه العلاقة بهدم البيت على رؤوس أصحابه، والعودة بالشعب إلى مراحل ما قبل الدولة، وما قبل المجتمع.
إن موضوع المؤتمر السنوي لدار «الخليج»، يأتي في ظرفية تاريخية شديدة الدقة، وفيها يشهد مسار التحولات في الوطن العربي انتكاسات مدمرة. ذلك أن عمليات التغيير لم تكن ناجحة إلا في بعض الدول التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. وهذه التجارب الناجحة تظل مهددة من دول الجوار الفاشلة، أو من التحديات الإقليمية و الدولية التي لا تريد خيراً لهذه الرقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي غرباً.
إنّ علاقة المجتمع والدولة، كانت محط اهتمام المفكرين العرب منذ عصر النهضة إلى الآن. فكل المشاغل الفكرية حاولت طرق هذه الإشكالية، من زوايا إيديولوجية، أو من زوايا فكرية، ومنطقية، والجميع حاول أن يفهم أسباب تصدّع هذه العلاقة في تاريخ الدول العربية المعاصرة، كما حاول التنظير لتأسيس علاقة متينة تحقق التنمية والتقدم والتحديث. والحقيقة أن علاقة المجتمع والدولة تطرح إشكاليات فرعية عدة، خاصة في هذه الفترة التاريخية التي يمر بها وطننا العربي. فهل نحن أمام مفهوم موحّد للدولة في الوطن العربي، نقيس عليه كل التجارب السياسية العربية منذ حركات التحرر إلى الآن؟ وهل المجتمع العربي، هو مجتمع موحد سياسياً وفكرياً و ثقافياً؟ وهل العلاقة بين المجتمع والدولة في الحالة العربية المعاصرة والراهنة، هي علاقة نمطية، أم هي علاقات متعددة، ومختلفة؟
إن جملة هذه الإشكاليات ستُطرح على طاولة النقاشات، في أشغال المؤتمر السنوي لدار «الخليج». فوجود قيادات من دولة الإمارات وقيادات دار «الخليج»، فضلاً عن مفكرين وإعلاميين وضيوف مهمّين، سيجعل هذا المؤتمر فرصة للنقاش الجاد والعميق في إشكالية تعتبر التحدي الأكبر في هذه المرحلة التاريخية. وهنا لا بدّ من التأكيد على جملة من النقاط المهمة إثراء للنقاش، وفتحاً لمسالك تفكير جديدة.
- في علاقة الدولة بالمجتمع، لا بدّ من تثمين بعض التجارب الناجحة في الوطن العربي التي تقود عملية تغيير عميقة، وتحقق التنمية والتقدم وتلتحق بخطوات متسارعة بركب الشعوب المتحضّرة. ففي بعض الدول العربية، ومن بينها دولة الإمارات العربية المتحدة، يقع الرهان على الاستثمار في الإنسان، وتبدأ عملية التغيير الحضاري الكبرى، بعصرنة التعليم وتمكين المجتمع من كلّ آليات التقدم، وأول آلية، أو أول شرط، هو العلم. فمن دون توفّر تعليم حقيقي يواكب متغيرات العصر، فإنّ المجتمع لا يستفيد شيئاً، حتى إن وقع إشباعه حد التخمة بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- العلاقة بين المجتمع والدول، في بعض التجارب السياسية العربية، كانت علاقة انفصالية. و ساد التوتر هذه العلاقة إلى أن حدثت لحظة الانفجار الكبرى في ما بات يوسم «بالربيع العربي»، التي تظهر نتائجها باستتباع. إذ هناك متغيّرات شديدة الخطورة، تتضح في مستويين اثنين. المستوى الأول يتعلق بالدولة، إذ تبدأ بانهيار النظام السياسي، وتتبعها حالة التفكك الإداري، واندثار جميع مقوماتها، لتحلّ محلها مجموعة سلطة جديدة، هي في كل تمظهراتها وصورها تنتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة. أما المستوى الثاني فيتعلق بالمجتمع، فانهيار الدولة يفتح الباب، أمام بروز نتوءات جديدة، كلّ منها يعتبر نفسه حالة اجتماعية مستقلة، وتنطلق في حالة صراع مريرة مع جملة النتوءات الأخرى.
- إنّنا في حاجة إلى بناء علاقة صحيحة بين المجتمع والدولة، وبالتوازي بين الدولة والمجتمع أيضاً. وهذه العلاقة الصحيحة تستوجب ارتقاء الطرفين إلى مرحلة من العقلانية في التفكير والممارسة، بحيث يكون الفرد مواطناً مكتمل المواطنة، وبحيث تكون المساواة والعدالة على أساس تلك المواطنة، ولا شيء غير ذلك. وفي المقابل على الفرد الذي يشكل أساس كل مجتمع، أن يغير نظرته للدولة. فليست الدولة هي تلك الآلة التسلطية، وإنما هي تلك الحاضنة التي توفر الخدمات وتضع السياسات وتقود عملية التنمية الشاملة. إن الدولة العصرية، هي جملة التوافقات السياسية والتشريعية والإدارية، التي يرتئيها شعب من الشعوب، ليعيش في أمن وسلام وسعادة. وهذا المفهوم، هو المفهوم الواقعي البسيط، لعصارة التفكير السياسي الغربي والعربي والحديث. فنحن كمجتمع يمكن أن نتخيل أي صورة للدولة، ولكنها تبقى متخيلة ما لم نستطع أن نحولها إلى منجز على أرض الواقع. المجتمع هو الذي يصنع «دولته القائمة»، أي دولته الواقعية التي تظهر في شكل الحكم، وفي قوانين الحكم وفي وسائط قيادة المجتمع. وإذا أراد المجتمع دولة عصرية فعليه أولاً أن يرتقي إلى استحقاقات العصر، وشرط ذلك هو التفكير بهدوء و بعقلانية. وما أحوجنا في هذا المناخ العربي العاصف إلى مواطنين يفكرون بعقلانية، وإلى قيادات تلتقط رسائل اللحظة التاريخية بكل عقلانية. وليس هذا المؤتمر إلا خطوة في الاتجاه الصحيح، والضروري أيضاً.&
التعليقات