&محمود الريماوي

لعله ليس حديثاً متأخراً عن فوز صادق خان بعمادة لندن، فأصداء الحدث وتفاعلاته لا تتوقف. المنصب الذي ارتقى إليه المهاجر الباكستاني الأصل أقل بقليل من منصب رئيس وزراء، لكنه يفوق معنوياً وتمثيلاً منصب وزير. أبناء لندن من مختلف الأعراق وتعدادهم 8,6 مليون نسمة، اختاروا ممن يحق لهم الاقتراع، صادق خان، وبالتالي فإنه يمثل المدينة بمجموعها وجُماعها، وليس جماعة عرقية أو دينية بعينها. وقد تم اختياره لأهليته الشخصية والمهنية بصرف النظر عن مرجعيته الدينية، التي لا يتنكر لها ولا يتخلى عنها، لكنه يدرك في الوقت ذاته أنه بات قائداً اجتماعياً وبدرجة أقل زعيماً سياسياً، وليس قائداً دينياً. صادق خان ينتمي لحزب العمال، وهذا الحزب رغم المآخذ عليه إلا أنه الوعاء الذي يستوعب أصحاب التطلعات الليبرالية واليسارية والإنسانوية، مقارنة بحزب المحافظين الذي يضم أصحاب الكفاءات وذوي المواقع الطبقية المتقدمة على السلم الاجتماعي. ولا شك أن اختيار هذا الشاب (45 عاماً) يعكس درجة عالية من التفتح الاجتماعي والثقافي.. فالمسلمون في العاصمة البريطانية لا يتعدى تعدادهم مليون نسمة (زهاء 11 في المئة ) بما يدل على أن صادق خان لم يفز بأصوات المسلمين بالدرجة الأولى، بل بأصوات خليط من السكان رأوا في الرجل نموذجاً يستحق الإعجاب كما يستحق المراهنة عليه، ومع ذلك فإن صعود الرجل في وقت تنتشر فيه نزعة الإسلام فويبا (رُهاب الإسلام) في غير مكان في الغرب، يدل على أن هذه النزعة ليست هي السائدة أو الحاكمة في النظر إلى الأمور. والفضل لمسلمين متنورين، وكذلك لمتنورين غير مسلمين يحسنون التعامل مع الآخرين، ويؤمنون بالتشارك الإنساني مع الآخرين أياً كانت أعراقهم ومعتقداتهم الدينية والفكرية، وصادق خان في عداد هؤلاء. لقد صعد الرجل من أسفل السلم فهو سليل عائلة مكافحة تضم ثمانية أبناء، وكان رب الأسرة يعمل سائق حافلة، وقد اقترن صادق خان بشريكة عمره التي يعمل والدها سائق حافلة أيضاً. وكان يمكن لصادق خان أن يرث مهنة أبيه وهي مهنة محترمة في جميع الأحوال (خلافاً لنظرتنا الدونية نحن في المجتمعات العربية والإسلامية للمهن اليدوية) لولا أنه كان شاباً طموحاً ومكافحاً. فيما يوصف منافسه المحافظ سميث بأنه ملياردير. مغزى ذلك أن الطبقية ليست هي القيمة العليا التي يتم الاحتكام إليها، حتى في مجتمع رأسمالي مثل مجتمع لندن. وفي أضعف الأحوال فإنه في الإمكان اختراقها بدلالة نجاح صادق خان الذي لم يمض على وجود أسرته في بريطانيا سوى 46 عاماً وبما يضاهي عمر الرجل الذي يعتز بجذوره، كما يفخر في الوقت ذاته بانتمائه لموطنه الجديد بريطانيا.

نرى في فوز الرجل انتصاراً لقيم التعددية والتعايش والكفاءة المهنية، ولا نرى فيه بالطبع فتحاً إسلامياً!... فالمسلمون مثلهم مثل غيرهم ينالون الاحترام حين يبرهنون على الكفاءة الفردية والجماعية، وحين يتواصلون مع غيرهم وفق معايير المواطنة والدولة المدنية، والتشارك الثقافي والحضاري في إطار من التعدد والتنوع الخلاق. التمييز السلبي ضد عقائد الآخرين مذموم، كما هو مذموم الاستعلاء العرقي والثقافي على الآخرين، والأصل هو تصعيد قيم العدل والمساواة وتكافؤ الفرص ومحاربة الفقر والبطالة واحترام حقوق الإنسان والشعوب في كل مكان.

في إحدى هلوساته قال المرشح الجمهوري المحتمل دونالد ترامب، إنه سوف يستثني صادق خان من عموم المسلمين المحظور عليهم دخول الولايات المتحدة، وقد رد صادق خان على هذه الدعابة السمجة، بقوله «إن القضية لا تتعلق بي شخصياً، هي قضية أصدقائي وعائلتي وكل شخص في العالم أتقاسم معه ثقافتي وأصلي». وأضاف خان، أن «جهل ترامب بالإسلام قد يعرض البلدين، أمريكا وبريطانيا، إلى الخطر، فقد يهيج شعور المسلمين في أنحاء العالم ويغذي التشدد».

وأضاف عمدة لندن الجديد «أن لندن أعطت جواباً واضحاً لمن يعتقد بأن القيم الغربية لا تتوافق مع الإسلام». وفي هذا الرد البليغ أعطى العمدة الشاب درساً لترامب المتهور، ذي النزعة العنصرية.

ويسترعي الانتباه أنه بينما رأى بعضهم على الضفة الإسلامية في هذا الحدث ما يشبه فتحاً إسلامياً، فقد تطير في الوقت ذاته بعض المتطرفين الغربيين من وصول سياسي شاب ذي خلفية إسلامية إلى المنصب الاجتماعي الرفيع. هذا يدل على أن المتشددين الذين يؤمنون بصراع الحضارات لا بالحوار أوالتفاعل الإيجابي بينها، هم جميعاً من ملّة واحدة، بصرف النظر عن أعراقهم وعقائدهم، ولحسن الطالع والتدبير، فقد جاء فوز خان ليثبت أن الكلمة العليا ليست لهؤلاء في أي مكان كانوا..