&&فـــؤاد مطـــر&
من أجل أن تستقر الأحوال في لبنان ويطوي اللبنانيون صفحات ومعها رحلة من الهموم المعيشية والاقتصادية، ومعها هواجس التصويب عليه لكي يكون وطن الذين لا وطن لهم، وجديد هؤلاء إخواننا السوريين، بعد إخواننا الأرمن، ثم إخواننا الفلسطينيين، وإخواننا الأكراد، وإخواننا العرب الرحَّل ... من أجل أن تستقر الأحوال التي لا مثيل لقساوتها، كنت من بين الذين يتمنون لو أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله أهدانا يوم الجمعة 2-5-2016 بدل رَفْع منسوب التصعيد والتهويل، مفاجأة تبعث الطمأنينة في النفوس كتلك التي أهداها راشد الغنوشي، مؤسس ورئيس «حركة النهضة الإسلامية» في تونس، إلى الوطن الذي ينزف فوضى وصراعات، إلى جانب الدم الذي يراق في ظل عُقم التفكير والمبالغة في العناد والتحدي.
أما الهدية الغنوشية فتمثلت في إعلان القطب الإسلامي التونسي المرموق الخروج من الإسلام السياسي، والتحول إلى حزب سياسي ممهدًا لذلك قبل ساعات بالقول عبر صحيفة «اللوموند» الفرنسية «نؤكد أن النهضة حزب سياسي ديمقراطي ومدني، له مرجعية قيم حضارية مسلمة، ومدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية. نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية. سنخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة ...».
ما جعل الغنوشي يتخذ خطوته النوعية تلك، التي سترفد التنظيمات الإسلامية السياسية بنسائم طيبة، يمكن في حال استقبالها وتقبُّلها أن تبدأ تلك الأطياف على أنواعها إعادة نظر في الرؤى، فلا تبقى بالتشبث التي هي عليه تؤذي الأوطان أفدح إيذاء، كما أنها تؤذي الجماهير المنضوية تحت راياتها، سواء كان الانضواء عن اقتناع أو عن تعصُّب نتيجة شحن مذهبي، من دون إسقاط ما يتعلق يتزين الأمور، بحيث لا تعود الأوطان على ما هي عليه من مصاعب.
لقد أمضى الغنوشي أربع سنوات مراهنًا على أن الإسلام السياسي هو السفينة التي ستبحر فيها «حركة النهضة» إلى بَسْط زعامتها وسيطرتها على تونس الخضراء. وافترض أن صفحة تونس السياحية والتراث والنهوض المتدرج على طريق التنمية ستُطوى على يديه، ويحل الإسلام السياسي محل العلمانية المسلمة المتدينة، وذهب بعيدًا في الافتراض، وإن لم يفصح عن ذلك، إلى حد التصور بأن نجاح «تونس دولة الإسلام السياسي» سيكون بمثابة منارة للجناح المغاربي من الأمة.
من حق الشيخ راشد أن يحلم، ونشير هنا إلى أن صفة الشيخ هي مثيلة الصفة التي كانت للدكتور حسن الترابي - رحمة الله عليه - الذي كان في رؤيته للسودان من حيث الإسلام السياسي مثل رؤية راشد الغنوشي، وحيث إن الشيخ الترابي رحل مقتنعا بالخروج من الإسلام السياسي، فإن الغنوشي لا بد أخذ مكابدات مثيله السوداني في الاعتبار.
المهم أن صحوة مفاجئة حدثت وقرر الغنوشي، وهو يتأمل في أحوال تونس وما يقوله الناس عنه في مجالسهم، وما هو أيضا حبيس الصدور، أن يبرئ ذمته، ويتصرف بحكمة لا تنال من مقامه، فكانت خطوته التي اعتبر فيها الإسلام السياسي تجربة واختبارًا تمامًا مثل التجارب والاختبارات التي يجريها الصيادلة والكيميائيون في المختبرات على أدوية، وفي اعتقادهم أنها ستشفي من أمراض مستعصية، ثم بعدما اكتشفوا أعادوا النظر في التركيبات عسى ولعل تنجح تجربة لاحقة.
زيادة في التوضيح نقول بعد هذه المقارنة إن «الإسلام السياسي» حالة فكرية إيمانية لا شك في ذلك، لكنها لا تعوِّض تونس ما تفقده يوميًا، وبحيث إن الرئيس الباجي قايد السبسي، يثابر متحملاً متاعب التجوال على هذا البلد الصديق أو ذاك البلد المتفهم، أو تلك البلاد المتحفظة، من أجل أن يعيد بعض الحيوية إلى اقتصاد تونس، ويعزز بقروض الميزانية المرهقة، ويقول من الكلام الطيِّب أمام الذين يزورهم لا تتركوا تونس الخضراء تتحول إلى حمراء.
نفترض في ضوء الخطوة الغنوشية أن طريق السياحة العربية والدولية إلى تونس ستستأنف المسلك، وأن أسواق تونس ستبدأ مرحلة انتعاش، وأن «النهضويين» بهذه الخطوة سينفضون عن سمعتهم الانطباع بأنهم الطيف المغاربي في «حركة الإخوان المسلمين». كما أنهم بالتدرج سيسقون شتلتهم المتجددة القائمة على نظرة موضوعية لواقع الحال، وعلى أنهم في انتقالهم من «الإسلام السياسي» إلى الواقعية الإسلامية، سيحمون تونس إلى جانب الأطياف الأُخرى من الإرهاب الوافد، وكذلك من «صقور نهضوية» تفضل البقاء على ضفاف التحدي بدل الانتقال إلى ضفاف سلامة تونس، التي هي من سلامة «حزب النهضة»، الذي ألبسه الشيخ راشد الغنوشي الثوب السياسي المتدين.
وبالعودة إلى ما بدَأْنا به هذه المقالة نكرر القول: لقد كنا نتمنى من أجل أن تستقر الأحوال في لبنان، أن يهدي السيد حسن نصر الله اللبنانيين، ومن دون استثناء أي طائفة أو طيف سياسي، مفاجأة كتلك التي أهداها الغنوشي لبني قومه. فما تلك المفاجأة المأمولة من السيد حسن؟
جوابنا عن ذلك هو أن يعيد النظر في مفردات ما يقوله في إطلالاته، خصوصًا تلك التي أوردها في إطلالته مساء يوم الجمعة المشار إليه آنفًا، وإلى ذلك يتأمل في أحوال البلد، وفي الخطوة التي اتخذتها حركة النهضة، وكيف أنها إزاء ما انتهت إليه أحوال البلاد والعباد التوانسة قررت ما قررته. ولأنه قرار لمصلحة الوطن وبما يأمر به الدين والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم «حُب الوطن من الإيمان والخروج عن الوطن عقوبة» فإن خطوة من جانب السيد حسن هو أدرى بصياغتها تبدو أكثر من ضرورية، ليس لطيف دون آخر ولا لطائفة دون أُخرى، ذلك أن الجميع عدا بعض المتلاسنين المتكاذبين في لبنان، يعيشون أحوالاً أكثر سوءًا من أحوال تونس. وهذه الإجراءات المصرفية تدق الأبواب، ولن تكون ردود الفعل الكلامية قادرة على صد هذه الإجراءات. ومَن يعش يرَ.
&
&
&
التعليقات