&جاسر الحربش

اعتماداً على قراءاتي الخاصة في التاريخ البشري أكتب هذه الانطباعات لمن بقي من العقلاء في المتبقي من دول الاستقرار العربي القليلة. هل يوجد برهان أكثر إقناعاً على فساد الحكومات من هروب أهلها إلى دول مختلفة عنها في الدين واللغة والعادات والتقاليد؟. يُوجد الآن في العالم حسب الإحصاءات الأخيرة خمسة وستون مليون لاجئ، أكثرهم هرب إلى الدول الغربية المسيحية، ونصف هؤلاء الهاربين عرب مسلمون. الاستنتاج الذي يفرض نفسه أن الأمن لم يعد يوفره التطبيق الإسلامي الحالي ولا الهوية الوطنية، أما العدالة وتقارب الفرص فمدفونة في القبور منذ عدة قرون.

ليس الجوع هو السبب الأول للهروب من الديار العربية، بل الاغتصاب والتعذيب والقتل. ذروة الانحطاط الأخلاقي تتمثَّل في أن الجرائم البشعة هذه تبقى بدون محاكمات والمجرم يموت ميتة طبيعية والأمل في تحقيق العدالة مفقود. دول العالم العربي تحولت إلى أقبية التعذيب وسراديب الخوف المستمر بدون أمل في تحسن الأوضاع، وكأن الناس كلهم في هذه الدول أصبحوا مجانين، إما بسفك الدماء أو مجانين بالرهاب وتطاردهم كوابيس القتلة والسفاكين في بيوتهم وحاراتهم ودور عباداتهم. في مثل هذه الأجواء يكثر الهرب إلى المخدرات والمهدئات النفسية وتزدهر تجارتها في السوق السوداء وترتخي المروءات وترخص الأعراض.

هل تطول عادة مثل هذه الظروف السيئة، بناءً على استقراء تجارب شعوب أخرى مرت بنفس الظروف؟. نعم، وتطول جداً لتنتهي بثورات شعبية عارمة تحرق كل شيء، ثم تبدأ بقايا الشعوب في البحث عن بدايات تعايش بشروط جديدة غير القديمة. أقرب الأمثلة المعاصرة نجدها في أفغانستان والصومال في تجربة لم تنضج بعد، حيث يسود الخوف والاغتصاب والقتل وإدمان المخدرات منذ عشرات السنين، وحيث تستمر محاولات الهروب من الجحيم الوطني ومغامرات اللجوء إلى الخارج التي كثيراً ما تنتهي بمآسي قتل وانتهاك أعراض قبل الوصول إلى أماكن الوصول المنشودة.

الصين مرت بنفس الظروف لأكثر من مائتي سنة، وسيطرت العصابات المحلية على الحياة العامة وتحول أكثر الناس إلى إدمان الأفيون لمحاولة جعل الحياة محتملة ولو قليلاً وتفشت الدعارة والجاسوسية للأجانب فأصبحوا سادة البلاد، واستمر الوضع حتى قامت الثورة الصينية الكبرى بمشاركة أكثر من عشرة ملايين صيني وبمسيرة ألف ميل، ثم بدأ البناء من الصفر.

جميع دول أوروبا بما في ذلك روسيا سبق أن مرت بنفس المعاناة لعدة قرون، وكان اللجوء آنذاك في الاتجاه العكسي، إذ يهرب الناس من أوروبا وروسيا إلى الجوار التركي والعربي الأكثر هدوءاً وازدهاراً، ولم تستقر الأمور ويمكن البناء من جديد إلا بعد حروب طاحنة مات فيها نصف سكان القارة الأوروبية.

أعتقد أن الدول العربية التي اضطربت أحوالها في العصر الحاضر، وكذلك الصومال وأفغانستان سوف تمر بنفس التجارب المريعة لكي تعود العقول إلى الرؤوس.