نجيب عبد الرحمن الزامل

.. أصحاب اللون الأسود الأفارقة هم أكثر من يشتكون ويبكون من العنصرية، وثاروا ضدها بكل مكان، ولكنك تعجب عندما تدرس أنثربولوجية التفرقة العنصرية عند الأفارقة عامة، وكأنهم يخترعون أي شيء أكان تافها أو ظالما من أجل أن يضعوا عليه رماح العنصرية ثم يتفاقم مع الزمن، وأجد بقراءاتي أن أكثر من يتعرض لأشنع أنواع العنصرية الآن في الكرة الأرضية هم قوم بيض البشرة بإفريقيا.

وبياض هؤلاء الناس ليس البياض المعتاد عند أهل شمال الكرة الأرضية، بل هو مرض يصيب الجينات الوراثية فتختل الصبغيات الملونة فتعود البشرة بيضاء ناصعة كالحليب الصافي ويكون لون الشعر مائلا بين البرتقالي إلى القرنفلي، ويعانون قصرا في البصر، كما أنهم لا يستطيعون تحمل الشمس فتحترق جلودهم وتتقرح، ويكونون أكثر عرضة لسرطان الجلد. وغريب أن هذا الاختلال الوراثي منتشر بين الأفارقة أكثر من بقية العالم.. ولا يعرف العلماء السبب.

&لندخل في صلب الموضوع..

منذ قرون في إفريقيا وهم يعتبرون البهاقيين Albinos جنسا ملعونا، أو مسحورا، أو جالبا للشؤم، ويسمونهم بالسواحيلي زيرو (أي شبح) أو نقروي (أي خنزير). حتى منتصف القرن العشرين كان قتل الأطفال البهاقيين أمرا روتينيا متبعا في معظم دول إفريقيا مثل تنزانيا، وبوروندي، وموزامبيق، وزامبيا، وجنوب إفريقيا، بعد ذلك انتهت ظاهرة سفك دماء الأطفال الرضع تقريبا من إفريقيا..

ويا ليتها ما انتهت!

لأن الذي حل بديلا هو العذاب الأعظم، الجحيم على الأرض. أقلها ما يتعرض له الأطفال البهاقيون من معاملة وضيعة من المجتمع، ومن التنمر عليهم في المدارس، لذا فإن معظم البهاقيين لا يكملون دراساتهم، ولا يستطيعون تحصيل رزقهم إلا بأدنى الأعمال وأقساها ظروفا؛ ليس أقلها التعرض للشمس التي هي أداة قتل بطيء ومؤلم بالنسبة لهم، فلا يعمرون طويلا. وليت أيضا أن الأمر وقف عند ذلك، بل راجت الشائعات أن بعظام البهاقيين ذهب، فصار المساكين يتعرضون للقتل بلا رحمة. عدم العثور على الذهب في عظام البهاقيين أدى إلى سرعة انتهاء هذه "الصنعة".

هل نجوا؟ لا!

صار الأمر أشد فظاعة، فجأة في كل وسط إفريقيا انتشرت "عيادات" لأطباء مشعوذين ادعوا أن عظام البهاقيين تقوي القدرة والباءة والطاقة، وتشفي الأمراض، وتجلب الثروة والرخاء والسعادة. فعادت وبقوة ظاهرة صيد البهاقيين وقتلهم من أجل عظامهم التي لا تقدر بثمن.. ولأمر لا نعرف كنهه لم يكن لعظام المرأة شعبية فكان التركيز على صيد الرجال وقتلهم وسلخهم.

هل نجت المرأة؟ لا!

جاءت موجة مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز" واكتسحت دول وسط إفريقيا، فزعم الأطباء المشعوذون أن معاشرة البهاقيات علاج أكيد للشفاء من الإيدز القاتل. فصار اغتصاب البهاقيات أمرا عاديا حتى الشرطة لا تأبه له كثيرا إن لم يشارك أفرادها. وما قصر المشعوذون فأضافوا أن عظامهن لها أهمية عظام الرجل نفسها، فكثر صيد البهاقيات لأن المكسب صار مكسبين!

تنزانيا الآن تكافح هذه الظاهرة بتغليظ العقاب لصيادي البهاقيين، وأوقفت عيادات الأطباء المشعوذين. قد تنجح.. ولكن إن كانت العنصرية البغيضة قوية، فسيخترعون تفرقة عنصرية أخرى، العنصرية وهم أكبر، لا دين ولا منطق يقر به ولكن يصدقه الملايين.

ألا ترون، لا يفتك بهذا العالم إلا الأوهام؟