&يوسف الديني&&&
تعد «ما بعد الحداثة» تعبيرًا فاصلاً لمرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة، وكان لهذه المرحلة أثر في كثير من المجالات، ولا شك أن العنف والإرهاب جزء من ذلك التغيير لا سيما بعد دخول مقاتلين من قلب الحداثة الغربية بقيمها وأسلوب حياتها والأنماط السلوكية.. إلخ.
في تقرير صحافي مثير نشرته الـ«ديلي ميل» البريطانية الأحد الماضي عن قصة المصور الهولندي دانيال راي (26 عامًا) الذي قضى في سجون «داعش» ومجتمعها البدائي في قسوته وعنفه وتعذيبه والمابعد حداثي في أدواته وطرائق استقطابه وأمزجة وأهواء أتباعه، خاصة من الغربيين الذين طوعوا معرفتهم السابقة بالحياة الغربية والحداثة الفنية والتكنولوجية إلى أسلحة فتاكة بيد التنظيم، حيث تم احتجازه لمدة طويلة من قبل دواعش بريطانيين لا ينتمون للثقافة العربية إلا من حيث العموميات الدينية فقط وعبر رؤية «داعش» العنفية، واللافت أنهم اتخذوا لهم لقبًا مقتبسًا من الفرقة الموسيقية الشهيرة «البيتلز - الخنافس» واحتفظوا بجانب كناهم الإسلامية بأسمائهم الأجنبية، فهناك جورج البريطاني أبو هريرة الذي كان طوال الوقت وهو يعذب ضحاياه ينشد أغاني البيتلز لكن بكلمات محورة تلائم مدائح دولة الخلافة المزعومة وأشهرها أغنية قتالية محفزة للدواعش الناطقين بالإنجليزية على غرار «فندق كاليفورنيا» للفرقة الشهيرة تقول كلماتها: «مرحبا بكم في فندق أسامة الجميل، مكان جميل، مكان جميل، لن تغادروا أبدًا فندق أسامة، وإذا حاولتم، ستموتون».
قصة الخنافس الثلاثة - قتل أحدهم في غارة أميركية مؤخرًا - تطرح مسألة في غاية الحساسية والأهمية، وخاصة بعد نذر اندحار تنظيم داعش في العراق وأجزاء من سوريا، وردة فعل التنظيم مؤخرًا بتهديد روسيا بعمليات نوعية في عقر دارها.. هذه المسألة هي عن مصير أجيال من الإرهابيين الفارّين من دولة الخلافة الموهومة، ومصير أبنائهم وعائلاتهم التي قضت ردحًا من الزمن في الحياة اليومية الداعشية بما تحمله من أفكار متطرفة وشحن غرائزي للعنف ونمط حياة متكامل يتدخل التنظيم في تفاصيله الصغيرة. وبحسب تقارير كثيرة من وكالات أوروبية فإن هناك ما يزيد على 35 ألف امرأة في مناطق «داعش» حملن من مقاتلين أجانب قادمين من الخارج، وهو ما عكسته تسجيلات مصورة لمعسكرات الأطفال الدواعش التي تقوم على التلقين الفكري ثم البناء العسكري والتدريب، ومحاولة المشاركة في أعمال عنفية كالتعذيب والذبح والقتل، وهي إفرازات ستبقى لمرحلة ما بعد «داعش» لعقود طويلة ولن تكون كما في الحالات السابقة من أفغانستان إلى البوسنة ثم الشيشان وغيرها محدودة التأثير عددًا وانتشارًا.
مخيمات «أشبال الخلافة» كما تسمى تبث فيها قنوات «داعش» التحريضية والتي يمنع الأطفال من مشاهدة غيرها، كما تقوم القناة بنشر الفيديوهات التي يمارس فيها أطفال التنظيم أعمالاً عنفية في رسالة واضحة أن «داعش» تنوي في حال ضربها أو محاولة القضاء عليها إبقاء جذوة فكرها في أجيال قادمة عبر الاستثمار في الأطفال.
وفي إطار تخفيف حدة هزائمه في مناطق التوتر في العراق وسوريا، أخذ التنظيم في التأكيد على خلاياه النائمة وذئابه المعزولة في كل أنحاء العالم على القيام بأكبر قدر من العمليات لمحاولة استقطاب المقاتلين وأيضًا لإظهار سطوة وقوة التنظيم ويده التي يمكن أن تطال أي مكان في العالم، لكن ذلك يعكس، بحسب محللين تحدثوا إلى تقرير صادر من مركز «IntelCenter»، أن التنظيم يسعى إلى الوصول إلى هدف أساسي خارج مواقعه في مناطق التوتر وذلك بالقيام بعمل إرهابي كل 48 ساعة، ولذلك فإن التنظيم أوعز إلى قياداته في الخارج بأن يتوقف التصدير للداخل العراقي والسوري على أن تقوم الكوادر في الخارج بعمليات نوعية، فليس لدى التنظيم ما يخسره بعد خسارة أساس دعايته «دولة الخلافة» التي يزعمونها، وهو ما يعني عودة الإرهاب إلى شعاراته القديمة لكن بطرائق جديدة على مستوى الاستهداف والوسائل والتقنيات.
فات الأوان الآن على الحديث عن ضرورة تغذية المناعة الاجتماعية تجاه أفكار «داعش» العنفية فحسب، بل الأهم الآن الشروع في برامج مناعة اجتماعية ضد التطرف بكل أشكاله، لأن التطرف هو المكون الأساسي لكل الأفكار المشتركة لتنظيمات العنف المسلح، وكلما زاد منسوب التطرف كانت فرص انبعاث الإرهاب وولادته من جديد أكبر، ولو في شكل تنظيمات حديثة، ولذا فإن أي حلول لا تنفذ إلى المعالجة المفاهيمية والثقافية والمجتمعية هي مجرد جرعات تعالج أعراض المرض لكنها لا تنفذ إلى جوهره.
أزمة أطفال الإرهاب ستكون مأزق العقود المقبلة إذا ما علمنا التطور النوعي في خطاب الإرهاب الذي يعد أخطر أسلحته كلها والذي أنتج لنا - عدا الدمار والموت - نخبًا من الشباب والمراهقين يختارون عن قناعة الانخراط في عمليات العنف المعولم، حيث تم استقطابهم عبر آلة الدعاية التنظيمية والقائمة على الوعد بفراديس أرضية ودولة تضم أنصار التنظيم في العالم، وليس فقط دغدغة المشاعر بوعود أخروية، وهو تحول نوعي في مسيرة التنظيمات الإرهابية التي ازدادت لديها مساحة الدوافع السياسية وحجمها، وهو ما يعني الانتقال من الإرهاب الفكري إلى السياسي وهو أشد وأكثر مرونة على التحالف والتشكل والتلون بما تقذفه معطيات الواقع من إفرازات جديدة.
خلاصة القول إن نواة التطرف خطاب دوغمائي، حالة نفسية قابلة للاستلاب والاستقطاب تبدأ بالتجنيد وتنتهي بالاقتناع بالانتحار في سبيل الفكرة المسيطرة، وجود بؤر توتر ومناطق صالحة لتكاثر مجتمعات متطرفة. للأسف الخلايا النائمة الأوروبية كشفت عن بعد جديد في الإرهاب، وهو انتفاء الادعاء «التسييسي» الذي يطلقه عادة معادو الأنظمة من أن الإرهاب ردة فعل على الاستبداد السياسي حصرًا، بحيث لو تم تسليم مقاليد السلطة لهم لاختفى الإرهاب، هناك مجموعات متطرفة في لندن وبروكسل وضواحي باريس تعيش أرقى أسلوب حياة يجعل الكثير من «شهداء الزوارق» المهاجرة يضحون بأرواحهم للحصول عليها ومع ذلك ينخرط شباب أوروبي متفوق دراسيًا وناجح عمليًا في مجموعات قتالية، وحين تقرأ سيرهم الذاتية تكتشف أن الدافع الوحيد هو «الفكرة العنفية المسيطرة» لا شيء عدا ذلك تمامًا.
&&&
التعليقات