خالد عباس طاشكندي

لا عجب من تناقض كلمة الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح الأخيرة التي ألقاها أمام قيادات حزب المؤتمر الشعبي في العاصمة صنعاء السبت الماضي، ووصف خلالها المملكة بـ«الشقيقة الكبرى» ودعوته إلى الحوار في أي مكان تختاره السعودية، ومطالبته لإيران بترك اليمن وشأنه، كما وعد بأنه لن يستخدم أي «ألفاظ نابية» ويقصد بذلك ما تلفظ به في خطاباته السابقة على المملكة، وهكذا هو المخلوع معروف بالمتناقضات والأكاذيب والمكائد والتحايل، وتاريخه كله يشهد بذلك منذ سلسلة الاغتيالات التي مهدت الطريق أمامه للوصول إلى سدة الرئاسة اليمنية أواخر السبعينات الميلادية وبسط نفوذه وسيطرته على السلطة 33 عاما أدار خلالها بلاده وفقا لمقولته الشهيرة: (حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الثعابين)، أي باللف والدوران والمراوغة والتلاعب والطرق الملتوية، مؤسسا بذلك واحدة من أسوأ الكليبتوقراطيات في التاريخ الحديث.

ولا جديد في تناقضات المخلوع، فها هو اليوم يدعي أنه شريك للحوثي ويقبع معهم في خندق واحد، بينما هو نفسه من ألقى خطبة عصماء في كلية الشرطة بصنعاء مساء السادس والعشرين من سبتمبر 2009م، قائلا: «الحوثيون أعداء للوطن، يقاتلون بهؤلاء المغفلين واستباحوا الأعراض والنساء وخربوا المنازل ونسفوا الجسور، ودمروا المدارس والمستشفيات، وينفذون أجندات خارجية»، وفي العام الماضي، قال المخلوع ردا على سؤال طرحته عليه الإذاعة السويدية حول إمكانية عودته للحكم في اليمن: «لا.. لا.. أنا رجل عجوز»، ولكنه عاد الأسبوع الماضي ليعلن عن اتفاقه مع الحوثي على تشكيل مجلس أعلى لإدارة البلاد تكون رئاسته دورية بين حزب المؤتمر الشعبي الذي يرأسه المخلوع وجماعة الحوثي، طمعا في إعادة اليمن إلى المربع الأول والعودة إلى فرض السيطرة التامة على اليمن وكسر إرادة الشعب، بالرغم أن هذا الاتفاق الأهوج مرفوض من المجتمع الدولي والأمم المتحدة ولا يحمل أي صفة دستورية.

ولكن ثمة أمور جوهرية حول خطاب المخلوع الأخير ونبرته الجديدة تجاه «الشقيقة الكبرى»، فالواقع الميداني يؤكد بأنه ضاق الخناق عليه بعد أن أصبح الجيش اليمني والمقاومة الشعبية على مرمى حجر من صنعاء، وهذا ما يفسر سبب مضاعفة ميليشيات الحوثي محاولاتها البائسة في شن هجمات أوسع باتجاه الشريط الحدودي للمملكة وإطلاق المقذوفات عشوائيا تجاه الأحياء السكنية والمدنيين جنوب المملكة، وهو في حقيقته هروب إلى الأمام، والمناورات الخبيثة التي تفتعلها بتجنيد الأطفال وإلصاق التهم المفبركة ضد قوات التحالف بانتهاك حقوق الإنسان، كانت تريد استخدامها كوسيلة ضغط لوقف الغارات الجوية على ثكناتها العسكرية.

والرئيس المخلوع يدرك تماما أنه استنفذ جميع كروته، وأنه قرر مكرها الإقدام على الانتحار سياسيا وعسكريا، فهو يعلم أنه لم يكن بمقدوره الانسحاب من المشهد السياسي تماما والتخلي عن السلطة كما أدعى في السابق، لأن أي حكومة مدنية تأتي من بعده ستتجه منطقيا لتفكيك المؤسسة الكليبتوقراطية التي بناها، وبالتالي إبعاد الآلاف من أفراد عائلته وأبناء عشيرته الذين تغلغلوا في المؤسسات العسكرية والأمنية والحكومية وفي جميع مفاصل الدولة من مناصبهم القيادية وإلغاء مخصصاتهم الضخمة التي أكلت الأخضر واليابس وكانوا سببا أساسيا في بقائه على هرم السلطة لأكثر من ثلاثة عقود، لذلك اضطر للاستعانة بجماعة الحوثي والتحالف معهم، والأخيرة تدرك أيضا أنها ليست بأحسن حالا من المخلوع، في ظل تقلص الرقعة الجغرافية التي يسيطرون عليها واضاعتها لفرصة الوصول إلى تسوية سياسية من خلال مشاورات الكويت بعد أن غررت بها إيران ودفعتها للمماطلة والممانعة، ودخولها في فخ الاتفاق الأخير مع المخلوع الذي يعني أنها تخلت عن إعلانها الدستوري واللجنة الثورية ودخولها في اتفاق باطل ينهي وجودها السياسي وبالتالي ستعود تلقائيا إلى صفتها الأساسية كميليشيا إجرامية.

أما الشعب اليمني فأصبح لديه وعي أكبر، وهو من قام بخلع صالح أملا في تحقيق بناء مفهوم الدولة المدنية، ولذلك يتمسك الشارع اليمني بالحكومة الشرعية ويرفض الانقلاب، ولن يقبل أن تحكمه عصابة طائفية ولا بعودة صانع الفساد الهيكلي واستغلال وتوظيف التركيبة القبلية لكسر إرادة الشعب الذي بات مدركا لخطاب المخلوع الديماغوجي ومؤامراته وألاعيبه وتدميره الممنهج لليمن من أجل السلطة.

ولذلك.. كانت هناك مؤشرات واضحة في كلمة المخلوع الأخيرة على إصابته بحالة من الإحباط والهلع والتيقن بأنه لن يستطيع وقف زحف الجيش الوطني والمقاومة الشعبية من دخول صنعاء، وأن حيله التي استخدمها لتشويه صورة التحالف العربي ومحاولة تعطيل القرار الأممي 2216 لن تنطلي على الأمم المتحدة، فالمعركة أوشكت على الحسم، والأزمة اليمنية بلغت عنق الزجاجة، ونهايته اقتربت.