&حازم صاغية

بالاعتماد على استقصاءات الرأي العام التي تُـجرى تباعاً في الولايات المتحدة الأميركية، تصعد حظوظ دونالد ترمب ثم تهبط، لتعاود الصعود ثم الهبوط، تبعاً لموقف أو تصريح يصدران عنه أو عن منافسته من الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. والحال أنه بعد المؤتمر الذي عقده هذا الأخير، وخصوصاً بعد تعرّض ترامب لوالدة جندي أميركي مسلم قضى وهو في مهمة قتالية في العراق، تفاءل المتفائلون بأن المرشح الجمهوري المهرج إنما بدأ يباشر سقوطه، وأن حزبه المحرج به قد يسحب ترشيحه منه.

وبالفعل فما بات يُعرف بهفوات ترامب، وهي أكثر كثيراً من هفوات، تلاحقت بوتيرة شبه يومية، بحيث راح كُتّاب ومعلقون وسياسيون يتحدثون عن اضطرابه العقلي وعن عدم استقراره النفسي. فهو لئن أراد أن يخاطب في «الأميركي الذكر الأبيض» نفوره من المؤسسة ومن «الصواب السياسي»، فقد ذهب إلى الحد الأقصى النقيض الذي يتعارض مع الحد الأدنى من الحساسيات المشتركة، أو ما يُفترض أنه كذلك. فإلى المسلمين والمكسيكيين الذين هاجمهم وأهان قناعاتهم وطرق حياتهم، امتدت شفرته اللسانية إلى النساء والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، ناهيك عن قيادات بارزة في الحزب الجمهوري نفسه كبول رايان وجون ماكين. وفوق هذا، بدا الرجل قليل الاكتراث بالشروط التقليدية التي قامت عليها استراتيجيات الدفاع الوطني في أميركا ومرتكزاته، أكان لجهة العضوية في حلف الأطلسي «الناتو» أم لجهة مساعدة الحلفاء في دول البلطيق في حال تعرضها لهجوم خارجي. وكانت ثالثة الأثافي مواقفه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومن ضمه شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، فضلاً عن الغزل المتبادل، مباشرةً أو مداورة، بينه وبين بوتين، وترحيبه بالتجسس الروسي المفترض على منافسته هيلاري كلينتون، على الرغم من كونها وزيرة سابقة للخارجية مؤتمنة على بعض أسرار الأمن القومي لأميركا.

وعلى العموم تجمعت أسباب وجيهة للقول بأنّ ترامب سيسقط في الامتحان ويُسحب من التداول قبل أن تصل بلاده إلى انتخاباتها الرئاسية في نوفمبر المقبل. وقد شارك بعض من عملوا معه في أوقات سابقة في الإدلاء بهذه الآراء، خصوصاً أنه «لا يستمع إلى أي رأي أو نصيحة»، و«ممن يصعب إقناعهم بأي شيء مفيد»، بحسب ما رأى بعض هؤلاء. وبالطبع فإن تحقق احتمال كهذا سيكون نصراً لأميركا وللعالم وللديمقراطية ولكل ما هو مضيء وعقلاني في هذا الكون.

مع ذلك، وعلى ما حذرت افتتاحية نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، لا يجوز التسرع في إعلان التفاؤل أو التصرف على ضوئه. ويبدو أن تفاؤلاً كهذا بدأ يسري في معسكر هيلاري كلينتون وبين معاونيها، فتحدث أحدهم عن كون المعركة قد حُسمت، وأن في وسع هيلاري أن تذهب في إجازة صيفية طويلة. كذلك ظهرت تقديرات تقول إن المرشحة الديمقراطية منشغلة الآن باختيار طاقمها الحكومي أكثر مما بخوض المعركة التي باتت محسومة.

وما يدفع إلى التحذير من التفاؤل أن جمهور دونالد ترامب لا تسري عليه تماماً معايير الحساب العقلاني. فتقديم البرهان على أن الرجل أخطأ أو ارتكب حماقة أو أخلّ بسلوك سويّ، قد يجد خليطاً متنافراً من ردود الأفعال، ولا يُستبعد أن يظهر في جمهور كهذا من يدافع عن الخطأ بوصفه صواباً، أو من يبرره بحجة أن أخطاء الخصوم أكبر منه، أو من لا يستوقفه بتاتاً فيمضي كما لو أن شيئاً لم يكن.

وهذا من سمات موقف شعبويّ يرفده نقص المعرفة وفائض الإحباط الناجم عن تهميش واستبعاد مؤكّدين. لكنّ هذا الموقف، كائنة ما كانت أسبابه القريبة والبعيدة، إنّما تتأدّى عنه كارثة إسكات العقل وتعطيله، وقد سبق لعالمنا أن شاهد إحدى أكبر هذه الكوارث في ألمانيا 1933 حين انتُخب أدولف هتلر مستشاراً لذاك البلد العظيم.