أحمد عبد المعطي حجازي


مازلنا نحن المسلمين، أو معظمنا، ننظر للعالم كما كان أسلافنا ينظرون إليه فى العصور الوسطي، فالعالم فى تلك العصور معسكران دينيان، أو داران منفصلتان كما كان الفقهاء يقولون: دار سلام، وهى بلاد المسلمين، ودار حرب وهى بلاد غيرهم، التى تعتبر دائما فى حالة حرب مع المسلمين، سواء كانت هذه الحرب دائرة بالفعل أو لم تدر بعد، لأن السبب الذى يدعو لاشتعالها موجود على الدوام، وهو الانتماء لدين هنا ودين هناك، واعتقاد المنتمين لكل منهما أن الدين الذى ينتمون له هو وحده الدين الحق الذى ينفى أى دين آخر ولا يستطيع أن يتعايش معه.

هذه النظرة لاتزال إلى اليوم تتحكم فى رؤيتنا للعالم عامة، وللغرب خاصة، ولأوروبا التى تختزل علاقتنا بها فى الصراع العنيف الذى دار بيننا وبين المستعمرين الذين استولوا على بلادنا فى القرنين الماضيين كأن لم يكن بيننا وبين الأوروبيين تاريخ طويل، وكأن تاريخنا معهم كان عنفا كله، وكأن العنف كان دائما من طرف واحد، وكأن المسلمين لم يفتحوا العالم ولم يدخلوا أوروبا ولم يستولوا على إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا وصقلية فى غرب أوروبا، ثم على اليونان، ورومانيا، والصرب، والمجر فى شرقها، وكأن الأوروبيين كانوا كلهم مستعمرين، ولم يكن منهم السياسيون والمثقفون وحتى الحكام الذين وقفوا إلى جانبنا ودافعوا عن حقنا فى الحرية والاستقلال من أمثال شارل ديجول، وبرنارد شو، وجولييت آدم، وبيير لوتي، وجان بول سارتر، وروجيه جارودي، وشون بن الممثل السينمائى الأمريكى الذى اعترض على العدوان الأمريكى على العراق، وزار بغداد، ووقف معنا خلال ثورة يناير فى ميدان التحرير، ولو سألنا أنفسنا عما قدمه لنا الأوروبيون من الأفكار والأعمال والمبادئ والنظم والمؤسسات والأدوات التى قامت عليها حياتنا فى هذا العصر، لكان الجواب أن كل ما جد فى حياتنا من أواخر القرن الثامن عشر، أى منذ حملة بونابرت إلى الآن، مصدره أوروبا، وما الذى كان يمكن أن تكون عليه حياتنا ووعينا بأنفسنا وبالعالم لو لم يكن فيها أمثال شامبليون، وسليمان باشا الفرنساوى الكولونيل سيف ـ وديليسبس، ومن تعلموا على أيدى الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة، من أول رفاعة الطهطاوى إلى شيخ الأزهر أحمد الطيب، مرورا بالخديو إسماعيل، وعلى مبارك، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، وأحمد شوقي، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، وبيرم التونسي، وجورج أبيض، وطه حسين، ومحمود مختار، ومحمود سعيد، ودرية شفيق، وشيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق، وشيخ الأزهر عبدالحليم محمود؟، وما الذى كان يمكن أن تكون عليه حياتنا لو لم نتعلم من الأوروبيين مناهجهم العقلية وعلومهم الحديثة ولم نقتبس من أدبهم وفنهم ولم نأخذ عنهم فكرة العقد الاجتماعي، والدستور، والدولة الوطنية، والنظم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟

أعرف طبعا أننا أعطينا الأوروبيين كما أعطونا، وكنا نحن السابقين، اليونانيون تعلموا من المصريين والفينيقيين فى العصور الأولي، والإسبان والإيطاليون والفرنسيون تعلموا من العرب المسلمين فى العصور الوسطي، فلسفة ابن رشد كانت سلاحا من الأسلحة التى استخدمها الأوروبيون للتحرر من سلطة الكنيسة والانتقال من عصور الظلام إلى العصور الحديثة، والفلكيون المسلمون مهدوا لكوبر نيكوس وجاليليو، وقبل أن يتحدث هذان عن كروية الأرض بخمسة قرون، كان ابن خرداذبة الذى عاش فى القرن التاسع الميلادى يقول «إن الأرض مدورة كتدويرة الكرة موضوعة فى جوف الفلك كالمحة فى جوف البيضة»، وبعده جاء ابن رستة ليقول إن الله وضع الفلك مستديرا كاستدارة الكرة، وكذلك قال المسعودي، وكان ابن سينا هو مرجع الأوروبيين ومرجع العالم كله فى الطب من القرن الثالث عشر الميلادى إلى أوائل القرن السابع عشر، وفى الأدب كانت قصة الإسراء والمعراج مصدرا من المصادر التى استوحاها دانتى فى «الكوميديا الإلهية»، أما تأثير «ألف ليلة وليلة» فى الآداب والفنون الأوروبية الحديثة فالحديث عنه يطول، وهذا هو تاريخنا مع الأوروبيين وتاريخهم معنا، هذا التاريخ يجب ألا نختزله فى علاقة أو مرحلة أو عصر، وأن نراه فى حركته الدائبة وفيما وصل إليه فى هذا العصر وما يمكن أن يصل إليه فى المستقبل، ونحن نتعلم من هذا التاريخ أن العالم تغير، وأن الإمبراطوريات الدينية سقطت، لأن الدين لله، والعالم للجميع.

الدين لله، والله واحد، فالدين فى أصله واحد، لكن طرقه تتعدد لأنه معرفة بالقلب لا يتماثل فيها اثنان، ولو كانا من دين واحد، أما العالم فهو ساحة مفتوحة لنا جميعا، نحتاج فيها لأن نتفق ونتجنب الخلاف بقدر ما نستطيع، فإن كانت حاجتنا للاتفاق لم تعصمنا من أن نختلف ونتخاصم ونتقاتل، فنحن نخرج من كل معركة ندخلها لنجد أنها لم تستطع أن تجعلنا جنسين أو عدوين دائمين، بل نحن نرى أننا نخطو كل يوم خطوة جديدة نحو مزيد من التفاهم والتقارب، وأن ما أنجزه البشر فى تاريخهم الطويل أنتج حضارة تنتسب لهم جميعا، وخلق عالما بلا حدود يقطعه الواحد منا من شرقه لغربه فى يوم أو أقل من يوم، فالعالم اليوم قرية كونية كما يقال الآن بحق، والإسلام كما قلت فى حديث الأربعاء الماضى حقيقة واقعة فى أوروبا، كما أن أوروبا حقيقة واقعة فى الإسلام، وهذه ليست مجرد نتيجة منطقية مستخلصة مما قدمته فى هذا الحديث، وإنما هى واقع ملموس وبيانات واحصاءات أصبحت معروفة متداولة.

المسلمون فى أوروبا الآن يتجاوز عددهم خمسين مليونا، والإسلام هو الديانة الثانية فى عدة دول أوروبية، فضلا عن أنه الديانة الأولى فى ألبانيا والبوسنة، والمساجد منتشرة حيث يوجدون، والحرية الدينية مكفولة لهم، وهم لم يعودوا مجرد جاليات أجنبية فى البلاد التى هاجروا إليها، فقد حصل الملايين منهم على جنسياتها وأصبحوا فيها مواطنين يشاركون فى الحياة العامة كغيرهم من المواطنين، ويدلون بأصواتهم فى الانتخابات ويرشحون أنفسهم فيها، ومنهم من فاز كما فاز صادق خان وأصبح عمدة للندن، وهو من أصول باكستانية، وكما فاز أحمد أبوطالب وأصبح عمدة لروتردام فى هولندا، وهو من أصول مغربية، وكما أصبحت نجاة بلقاسم وزيرة للتربية الوطنية فى الحكومة الفرنسية الحالية، ورشيدة داتى وزيرة للعدل حين كان ساركوزى رئيسا للجمهورية.

الإسلام حقيقة واقعة فى أوروبا، وأوروبا حقيقة واقعة فى الإسلام. وللحديث بقية.