حسام عيتاني
يشبه الكثير من الكتابات التي تتناول الثورات العربية لعبة «مكعب روبيك» التي راجت في ثمانينات القرن الماضي، فاللاعب- القارئ يعرف تماماً كيف ستنتهي اللعبة- المقال أو الدراسة، وماذا ستقول، وما هي الاستنتاجات الرئيسة التي سيخلص الكاتب إليها، لكنه مع ذلك يجد أن هذه الكتابات مستمرة بالتدفق عليه عبر الصحيفة أو الموقع الإلكتروني.
وللتذكير، يهدف اللاعب بالمكعب المذكور الى توحيد الألوان على أسطحه الستة وجعل كل واحد من الأسطح خالياً من تعدد الألوان وتنافرها وجمع المربعات ذات الألوان المتشابهة على سطح واحد. ثمة ملايين الحركات التي يمكن تقليب ألوان المكعب بواسطتها من أجل بلوغ الهدف المعروف سلفاً في ذهن اللاعب. كذلك الأمر في الآلاف من المقالات والدراسات والكتب التي تصدر منذ خمس سنوات ونيف وتتناول الثورات العربية.
وعلى النحو الذي يسعى فيه اللاعب بـ «مكعب روبيك» إلى إزالة الفوضى اللونية والانتقال إلى النظام العقلاني من خلال جعل ألوان الأسطح موحدة، يكتب الباحث العربي لنقد وضع سابق سلبي، غير عقلاني مرفوض، من سماته الاستبداد والتسلط واحتكار الثروة والسلطة من جهة، والدعوة إلى حالة أقرب إلى العقلانية والعدالة وحكم القانون من الجهة المقابلة.
بيد أن كثرة طرق الانتقال تقود في غالب الأحيان الى عدم الوصول الى الهدف. وتنتهي المحاولة بتكريس وضع غير عقلاني واستبدادي جديد، مثلما يفشل اللاعب بالمكعب في الوصول إلى تنظيم ألوان الأسطح الستة. يمكن العثور على نتائج كهذه في الكتابات العربية التي تعيد توصيف الواقع وتحليله وهجاء الأنظمة التي قادت المنطقة إلى المصير الحالي حيث الثورات المجهضة والحروب الأهلية والمشاريع الكبرى المحطمة.
هل يمكن إدراج هذا النوع من الأعمال البحثية والصحافية والفكرية في إطار إنتاج المعرفة ما دام لم يصل إلى صوغ نموذج متماسك؟ الأرجح نعم، فعلى الرغم من توقف استنتاجات أكثرية الكتابات العربية عن تقديم تصور لواقع جديد وممكن، إلا أنها ترسي نقداً صلباً لحالة بات من المحال الرجوع إليها. ولعل النموذج الأنجح في وقف التغيير الذي بدأته الثورات العربية، أي النموذج المصري، هو في الوقت ذاته النموذج الذي يواجه الصعوبات الأعمق في استعادة الاستقرار الاقتصادي والسياسي السابق للثورة على علاته الكثيرة.
مفارقة ثانية تواجه التناول الفكري أو النظري (إذا جاز التعبير) للثورات العربية. خلاصتها أن الأعمال المذكورة ترفض التبني الصريح لقيم نقيضة لقيم النظام السابق، كالديموقراطية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان والمرأة والحريات العامة والفردية مقابل الديكتاتورية والأحادية والقمع الشامل. ينطوي هذا الرفض على إدراك على درجات مختلفة من الوعي (بحسب اختلاف الكتّاب) أن تبني قيم الديموقراطية والحريات يعني حكماً اتخاذ موقف إيجابي من الغرب الذي عمم هذه القيم ونقلها من سياقها الذي نشأت فيه ضمن آلية التحرر ونشوء الديموقراطيات الغربية، إلى سياق عالمي وجعل منها قيماً كونية.
يزعج هذا الاعتراف الكاتب في شؤون الثورات العربية، إذ يضعه في موقف غير معتاد ويجرده من عدائه المريح للغرب وسياساته ويحول بينه وبين نقاش مركب عن علاقة القيم بالسياسة. ودرءاً لهذا الإحراج والانزعاج، يعود الكاتب إلى تقليب المكعب وتوصيف ما أُشبع وصفاً وكتابة وترك المسائل المعقدة للمستقبل.
التعليقات