محمد السعيدي

فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أحد العلماء الكبار الذين وضعوا بصماتهم على العصر الحاضر، وبخاصة في النشاط الإسلامي، ليس في المنطقة العربية وحسب، ولا العالم الإسلامي وحده، بل العالم أجمع، في مختلف أنواع النشاطات من تدريس وتأليف ودعوة وخطابة وإفتاء وإعلام، حتى إنني أعتقد أن نظيره في انتشار النشاطات وتنوعها قليل، إن لم نقل نادر.
حتى في هذه الأيام التي بلغ فيها الشيخ من الكبر عتيا لم يركن، حفظه الله، لمتاعب الشيخوخة ومتطلباتها. وقبل عامين تقريبا كان له موقف جليل حظي بإكبار الجميع من مريدين ومحبين ناقدين وآخرين ناقمين، وهو اعترافه على الملأ بخطئه الجسيم حين صدق مزاعم الإيرانيين ودعواتهم للتقريب بين المذاهب ومشاركته لهم فيها، وإشراكه لهم في اتحاد علماء المسلمين الذي يترأسه، واختياره واحدا من رموزهم ليكون نائبا له فيه، وكذلك تصديقه لأكاذيب مقاومة إسرائيل من عميلهم حسن نصر الله، وسخرية الشيخ، سامحه الله، من علماء المملكة وعلماء المنهج السلفي في العالم، حيث كانوا سباقين إلى كشف باطل هؤلاء وزيف دعاواهم، ولم يستنكف الشيخ، حفظه الله، أن يقول بملء فمه: إن علماء السعودية كانوا أكثر منه في هذه القضية فهما، ولم ينخدعوا كما انخدع هو.
وهو موقف جدير بالثناء حقا، رغم أنه جاء متأخرا ومتأخرا جدا، بعد أن بلغ المد الإيراني في العالم مبلغه وانخدعت بعض الجماعات الإسلامية بالإيرانيين وتواصلت معهم، وبدؤوا من خلالها يشتغلون في التشييع في إفريقيا وآسيا بل وأوروبا والأميركتين، وكانوا في بداية نشاطهم يتكئون على فتاوى الشيخ القرضاوي ومن سبقه من علماء الأزهر، كالشيخ شلتوت في الفتوى المنسوبة له، والرموز الدعوية كالشيخ البنا، حين شارك في إنشاء دار التقريب في أربعينات القرن الميلادي الماضي، كما يتكئون على من تابع القرضاوي، حفظه الله، في موقفه من إيران، كالعديد من الناشطين مثل الشيخ راشد الغنوشي، ويوسف ندا وغيرهما، وكثير منهم لم يوافق الشيخ حتى اليوم في رجوعه عن حسن الظن بإيران، كالشيخ مهدي عاكف والدكتور كمال الهلباوي والشيخ الغنوشي والأستاذ فهمي هويدي، حيث لا زال منهم وبالرغم من كل شيء من يرتبط بعلاقات وثيقة بالنظام الصفوي المجرم، أو قل لم يعلنوا حتى اليوم براءتهم منه، فالشيخ الغنوشي بعد جرائم ما يسمى بحزب الله استقبل وفدهم في بلاده وأكرم وفادتهم وثمن مشاركتهم لهم في احتفالاتهم، وأدان ما صدر عن وزراء الداخلية العرب من اعتبار حزب الله حركة إرهابية، بل ومارس حزبه ضغطا على الحكومة التونسية لتتراجع عن موافقتها للوزراء العرب لتقول: إنه قرار غير إلزامي.
فخطأ الشيخ القرضاوي، حفظه الله، ليس خطأ في فتوى يقع أثره على أفراد معدودين، ثم ينقضي بمجرد الرجوع عنها إلى فتوى أخرى، بل خطأ في فهم واقع سياسي ودافع عقدي، ومن الطبيعي جدا أن تستمر آثاره السيئة مدة من الزمن، فأخطاء الكبار -كما يقول المثل العربي- كبار الأخطاء.
ومع ذلك فليس هذا هو الخطأ الوحيد للشيخ في مواقفه السياسية، وأقول بمسؤولية تامة: إنني لا أعرف لفضيلته منذ 38 عاما موقفا في قضايا الأمة السياسية المفصلية إلا ثبت بعد سنوات أنه كان خاطئا، ولست هنا بصدد تعداد تلك المواقف، فقد تحدثت عنها في مقال سابق، وقد أخذ في حينه حظه من الانتشار، وكان نشره قبل أسبوعين على التقريب من إعلان الشيخ، حفظه الله، إقراره بخديعة الإيرانيين له وسابقة علماء السعودية بالوعي بخطرهم.
وإنما أنا هنا بصدد الحديث عن خطأ أعظم وأشد جسامة وأثرا سيئا على الأمة، يدفعني للحديث عنه ما تم قبل أيام من اتفاق حول إنهاء الثورة السورية بين روسية وتركيا ووافقت عليه عدد من الفصائل المقاتلة في الداخل السوري، وهو اتفاق يأتي بعد دمار سورية بأسرها، مهمته الوحيدة إيقاف الدمار عند هذا الحد، وموافقة الفصائل المجاهدة "ووصفي لها بالمجاهدة وصف أراه حقيقيا"، على هذا الاتفاق يعني أنها باتت يائسة من نسيج الأحلام التي ظلت تغزل لها عن دولة الشريعة التي ستقام على أنقاض دولة الأسد، وباتوا أكثر وعيا بأنهم في عالم جديد يختلف عن عالم صلاح الدين، رحمه الله، والصليبيين، عالم النصر المؤزر فيه وتحقيق الآمال لا يكفي فيه الشجاعة والإخلاص وقوة الساعد، بل لا يكفي فيه حتى امتلاك السلاح، ولو كانت قوة العتاد والعدة في هذا الزمان كافية لبلوغ المآرب لما رأيت روسيا المصنعة للسلاح، والممتلئة بالرجال تهزم في أفغانستان؛ ولما رأيت الولايات المتحدة وهي القوة الأولى في الجيش والعتاد، تهزم في فيتنام، وتتراجع في الصومال وأفغانستان والعراق، وأخيرا في سورية.
فليس المسلمون هم الذين يتلقون الهزائم اليوم وحدهم، لكن كل من يتصرف وكأن العالم له وحده لا شك سينكسر، سواء أكان قوة عظمى كروسيا وأميركا، أم جماعات سياسية كالإخوان المسلمين ومن حذا حذوهم، أو فصائل متطرفة كداعش والقاعدة، أو فصائل مجاهدة كالجيش الحر بمختلف ألويته.
فلم يكن المجاهدون الأفغان لينتصروا بعد توفيق الله لهم لولا وجود قوة عالمية تساندهم وهي الولايات المتحدة، وقوة إقليمية هي المملكة العربية السعودية، ولم تكن طالبان لتكتسح الساحة الأفغانية لولا مساندة قوتين إقليميتين هما السعودية والباكستان. وحين تغابى القادة الأفغان وطالبان عمن وقف معهم سقطوا جميعا.
ولم تكن حرب البوسنة لتنتهي لولا أن المجتمع الدولي بأسره رغب في أن تنتهي، هذا هو الواقع، فمن فهمه على حقيقته وتعامل معه بذكاء وحنكة واقتدار استطاع الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه، لا إلى كل ما يريد الوصول إليه، ومن تعامل معه بمنظار مقلوب وبدت له الأمور الكبار صغارا، فسوف يصطدم بصخرات الواقع التي زيفها له منظاره المقلوب.
لكن الشيخ القرضاوي كان منذ بداية ما يسمى زورا بالربيع العربي متجاهلا هذه الحقيقة المتجلية كالشمس عقلا وتجربة، فظهر كأب روحي لكل الثورات في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، فهل يمكن لهذه النهاية الأكثر إيلاما لثورة سورية -إن كانت قد انتهت حقا- أن توقظ الشيخ القرضاوي إلى خطئه السياسي والمصلحي في موقفه من الثورات؟
وعادة الشيخ القرضاوي حينما يكون دليله في قضية ما العاطفة المجردة في مواجهة الدليل يلجأ إلى السخرية بالمخالف واستهجانه، وقد صنع ذلك في رده على علماء المملكة الذين وقفوا من الثورات موقف العالم من الفتن، فقال: "اللهم إن كانت هذه فتنة فأمتني عليها"، بدلا من أن يقول ما قاله الرسولﷺ: "اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه"، فهل سيستغفر من هذه الدعوة على نفسه ويسأل الله الهدى، ويعود إلى النصوص القرآنية والنبوية التي تأمر بالجماعة وتحض على الصبر وتنهى عن السيف في جماعة المسلمين، وتنادي بإصلاح العقائد والقلوب وتعبيد الناس لله، قبل تسليطهم على حكامهم. النصوص التي تدل على وجوب اعتبار موازين القوى وعدم الإلقاء باليد إلى التهلكة والرحمة بالمسلمين من مغبات الفتن.
إن ندائي هنا للشيخ، حفظه الله، باعتباره رمزا إذا رجع كان لرجوعه أثر عظيم، وشفقة عليه من أن تستجاب دعوته فيحمل ما تجره الثورات على أهليها من رزايا. قد يردد الشيخ أو غيره: إن الثورات لم تفشل لولا الثورات المضادة، وهذا حق من حيث حكاية التاريخ، لكنه باطل إن أريد به تأييد المنهج الثوري الذي لم يأت للمسلمين ولا للكافرين بخير؛ لأن مقاومة الثورات ممن لا يرون رأيها هي الموقف الطبعي الذي لولاه لما كان هناك دافع للثورة أصلا؛ فإن كانوا بادئ أمرهم حالمين بثورة لا تجد لها ضدا فقد أشاروا بالأيدي إلى مبلغ سذاجتهم وسطحية أفكارهم.