يوسف مكي
هل يمكن فعلا الزعم بأن العلم حالة مجردة، ليس للرؤية والموقف والالتزام أدوار فيه. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يختار الباحث موضوعا معينا للبحث ولا يختار غيره؟
على هامش أحد المؤتمرات الفكرية التي عقدت مؤخرا في أحد الدول الخليجية، جرت مناقشات حول قيمة السؤال. وكانت المقدمة هي أن الثقافة العربية تغيب الأسئلة، وأن هذا الغياب هو من أحد أسباب تعثر مشاريع النهضة. إن طرح الأسئلة هو ما يميز ثقافة الدول المتقدمة عن غيرها من ثقافات بلدان العالم الثالث.
لكن هذا الطرح على ما فيه من وجاهة، يغيب ماهية السؤال. فليس كل سؤال يقود إلى انتعاش ثقافة التحليل والتفكيك. والمهم هو البيئة التي تطرح فيها الأسئلة. ففي مناخات التخلف والخرافة والدجل، تطرح الأسئلة من داخل هذه الثقافة وليس من خارجها. وتسهم الأسئلة في هذه الحالة في ترسيخ سواري التخلف، ولا تكون عامل وعي ويقظة.
وهذه القراءة تنقلنا إلى محطة أخرى في طرح الأسئلة هي تقنياتها. فالأسئلة التي تتطلب جوابا بنعم أو لا، لا تتطلب قراءة أو تحليلا معمقا. وحتى الأسئلة المتعلقة بالماهية والكيفية، لن تكون بأي حال معزولة عن بيئة السؤال التي تكون في الغالب موجهة، أو تقود بطبيعتها إلى جواب محدد، بما ينفي الحياد.
والحديث عن الحياد في طرح الأسئلة يقود إلى موضوع أعمق من ذلك بكثير. إنه يطرح إشكالية حيادية العلم. وهو موضوع سجالي قديم جديد. هل يمكن فعلا الزعم بأن العلم حالة مجردة، ليس للرؤية والموقف والالتزام أدوار فيه. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يختار الباحث موضوعا معينا للبحث، ولا يختار غيره، مع أن مواضيع البحث في جميع مجالات التخصص كثيرة ومتشعبة؟!
ويقود البحث عن حيادية العلم والأسئلة إلى الحديث عن العلم والبحث العلمي، ويطرح الكثير من التساؤلات عن حيادية العلم.
في البحث العلمي هناك موقف نظري ومنهج وفرضيات وتحديد للمفاهيم. وفي كل محطة من محطاته نصطدم بموقف وإجراء يخدش مفهوم الحياد أو يقترب من إلغائه.
للباحث في العلوم الإنسانية وظيفتان: الأولى أن يسترشد بنظرية ليعالج حالة من الحالات ذات العلاقة بتخصصه، كأن يناقش أسباب التضخم الاقتصادي في بلد ما، أو عكس ذلك. ولماذا تنتشر الأمية في بلد ما ولا تنتشر في بلد آخر. وفي كل حالات البحث يسترشد الباحث بنظرية من النظريات المعروفة في العلوم السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
ونحن في هذا السياق نبدأ بطرح المشكلة، ونقوم بالتعليل لاختيارها دون غيرها. وكل ذلك من عندياتنا. اخترنا المشكلة وقدمنا تبريرنا لذلك. وذلك ينطلق من رؤية خاصة لنا، والرؤية تنطلق من موقف، والموقف ينطلق من انحياز، وذلك ما يلغي معنى الحياد.
نختار للمسألة إطارا نظريا، والنظريات كثيرة ومتضاربة، وتصل حد التناقض فيما بينها. لنأخذ على سبيل المثال نظريتين في تفسير أسباب النكوص الاقتصادي في بلد ما من بلدان العالم الثالث. نظرية التمدين لوالت روستو، التي تقول بأن الانتعاش الاقتصادي للبلدان المتخلفة لن يتحقق إلا باندماجها في السوق الرأسمالي. وأن العلاقة بين البلدان الصناعية، والبلدان المتخلفة هي علاقة تكاملية، يكون دور بلدان العالم الثالث الاستهلاك، وتقديم المواد الخام، بحيث تكون أسواقا مستقبلة للمنتجات الواردة من الخارج. ويكون دور الدول الصناعية هو تحويل المواد الخام والتصنيع. وأن ذلك هو ما يكفل للدول المتخلفة تغيير واقع الحال، والوصول إلى مرحلة الانطلاق الاقتصادي Take off.
في حين ترى نظرية التبعية، ومن بين أقطابها المفكر العربي سمير أمين، أن المعضلة تكمن في خلل العلاقة بين المركز والمحيط. وأن العلاقة بينهما هي علاقة صراعية وليست تكاملية. لا يمكن تشبيه تلك العلاقة بعلاقة فريق كرة قدم، يحظى فيه كل لاعب بذات الحقوق. إنها علاقة قائمة منذ اللحظة الأولى على عدم الندية والتكافؤ، بما يوصف بالتطور اللامتكافئ. وأن واقع التخلف في بلدان العالم الثالث سوف يستمر إلى أن تتمكن بذاتها من خلق محركاتها الذاتية، والانطلاق إلى عالم الصناعة ومكننة الزراعة.
ولا يقف واقع التشكيك في حياد البحوث عند هذا الأمر، بل يصاحبنا ذلك في المنهج. فالباحث دون غيره هو الذي يختار منهجه. والمناهج كثيرة ومتعددة. هناك منهج التحليل التاريخي، والتحليل النفسي، والتحليل النوعي، والتحليل السياسي، والتحليل الاقتصادي، كمي أو نوعي. والباحث عادة يبرر أسباب اختياره لمنهج بذاته، دون غيره. لكن من يضمن لنا أن يكون هذا التبرير بعيدا عن الهوى، أو عن الرؤية والموقف الأيديولوجي.
ونصل إلى المحطة ما قبل الأخيرة من مقدمات البحث، من غير الدخول بالمتن. فالباحث يختار فرضيات محددة. وذلك أمر بديهي ومنطقي. فليس بإمكان أي بحث أن يظل مفتوحا على جميع الفرضيات، لأن ذلك يحيل بحثه إلى عمل عدمي وعبثي. ولا بد من التقيد بحدود معينة للبحث. ويواجهنا السؤال مرة أخرى، لماذا اختار الباحث أن يمتحن فرضيات معينة، ويتجاهل أخرى؟... ويتواصل طرح الأسئلة حول حيادية البحث.
وللبحث مفاتيح مفهومية conceptual، وأخرى إجرائية operational، وليس مطلوبا من غير الباحث أن يحدد له هذه المفاهيم، فهو الذي يختارها ويفصلها لنا. ولا نطلب منه سوى أن يلتزم ما ألزم به نفسه. وذلك يعني أننا متفقون معه ابتداء على انحيازه.
تلك قراءة سريعة، ركزنا فيها على العلوم الإنسانية، لوضع علامات استفهام كبيرة على حيادية العلوم الإنسانية. فماذا عن العلوم الطبيعية؟ هل يمكن أن توصيفها بالحياد؟ تلك مسألة أخرى بحاجة إلى نقاش في موضع آخر، في أحاديث مقبلة بإذن الله.
التعليقات