محمد علي البستكي

بعد الحرب العالمية الثانية دخلت بعض الدول في الاتفاقية العامة للتعرفات والتجارة المعروفة «بالجات».

تهدف هذه الاتفاقية إلى تسهيل العمليات التجارية بين الدول، وتشجيع التبادل التجاري في ما بينها، وتعمل على حل النزاعات التجارية عن طريق المفاوضات، كما تهدف إلى تطوير الاقتصاد الدولي وتصويبه تجاه التنمية والازدهار، وعليه تطورت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين دول العالم فأُنشئت منظمة التجارة الدولية في مدينة جنيف عام 1995، لتصبح هي المرجعية القانونية الضابطة للتجارة والضامنة لحرية وسلاسة حركة السلع والبضائع بين المدن والبلدان.

وهكذا أصبحت للتجارة حضور دولي قوي، وحصلت الكثير من المؤسسات التجارية على قبول عالمي ليصبح الاقتصاد أول مكونات العولمة، ثم تبع ذلك العولمة الثقافية والاجتماعية.. إلخ، وقد شهد العالم تطوراً تجارياً استثنائياً، وأصبح المستهلكون يحصلون على بضائع كثيرة ومتنوعة بأسعار أرخص فغزت السيارات والمنتجات الإلكترونية اليابانية والكورية، ثم الصينية شرق العالم وغربه، كما دخلت صناعة المشروبات والمأكولات الأميركية مدن العالم إن لم يكن كل بيت فيه.

وبحسب بحوث ودراسات أجرتها مجموعة «إجماع كوبنهاجن» فإن التجارة الحرة العالمية أسهمت في انتشال الملايين من براثن الفقر، وخلقت فرص عمل ووظائف لمئات الألوف من العاملين في مختلف دول العالم، وأسهمت في نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 6% سنوياً لفترة ليست قصيرة، ثم جاءت الأزمة الاقتصادية عام 2008 لتقف دول العالم مواقف متباينة من العولمة، فمنذ عام 2010 لم يتجاوز نمو التجارة العالمية أكثر من 2% سنوياً.

بدأ السخط الشعبي في كثير من بلدان العالم تجاه العولمة الاقتصادية، ويبدو أن القاسم المشترك لهذا السخط هو أن الاقتصاد يتم إدارته لصالح القلة الغنية فبحسب دراسة أعدها معهد «بروكينز» بأن مكاسب النمو الاقتصادي تتجه إلى جيوب أصحاب الدخل المرتفع فمثلاً في بلدان منظمة التعاون والتنمية يكسب 10% من الأغنياء عشر مرات أكثر من 10% من الناس في أسفل القائمة.

وفي المنتدى الاستراتيجي العربي عام 2015م، أقر وزير الخزانة الأميركي السابق لورانس سامرز بأن العالم يعيش فوضى مالية، وأن النظام المالي العالمي أصبح مصدر خطر إذ أسهم في تدمير أرزاق الملايين من شعوب العالم. كما توقع بروفيسور الاقتصاد لوريل روبيني من جامعة نيويورك أن يصيب الضعف والتراجع العديد من الاقتصادات الناشئة.

كما أصبحت العولمة همّاً يوجه الشعور الشعبي لدى دول ذات اقتصادات متقدمة، فمثلاً خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء شعبي، وخلال الانتخابات الرئاسية الأميركية أعلن المرشحان الديمقراطي والجمهوري نيتهما على مراجعة الاتفاقات التجارية، التي أبرمتها بلادهما على أساس المصلحة الوطنية.

كما ظهرت احتجاجات شعبية تعارض العولمة الاقتصادية وصفقات التجارة الحرة في كل من ألمانيا وبلجيكا والسويد ونيوزيلندا وكندا وأستراليا. أجل هذا ما آلت إليه العولمة على المستوى الدولي فكيف الحال في وطننا العربي من خليجه إلى محيطه؟

يختلج إحباط وحزن كبيران صدور الشعب العربي لما آلت إليه أحوال أقطار ومدن كبيرة في حضن هذا الوطن الكبير، فالحروب ما زالت مشتعلة في العراق وسوريا واليمن، حيث تراجعت عجلة التنمية إلى الوراء، وفي بلدان أخرى توقفت العملية التنموية بسبب الفوضى الإدارية والتدخل الأجنبي في مكونات الحياة السياسية، فهل إلى خروج من سبيل؟!

على شواطئ الخليج العربي وسواحل البحر الأحمر تجارب ناجحة ومؤشرات خير وبوارق أمل تستحق الوقوف عندها ودراستها والاستفادة منها في ربوع بلاد الضاد، فأول هذه الدروس نستقيها من القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عندما أسس قبل 45 عاماً اتحاد دولة قوية الأركان، شامخة البنيان، من خلال مسيرة تنموية شاملة تكاد تصل إلى الإعجاز البشري.

واليوم يقود صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، مرحلة التمكين، تمكنت خلالها الدولة الوصول إلى مواقع متقدمة على مؤشرات التنمية البشرية والتنافسية العالمية، كما تبرز تجربة دول مجلس التعاون الخليجي- تأسس عام 1981- قدوة حسنة في التآلف والتآزر والتحالف.

حيث تعززت التنمية في بلدانه وحافظ المجلس على مستوى «عال جداً» في مؤشر التنمية البشرية، وقد كلل جهوده التنموية بإنشاء «هيئة الشؤون الاقتصادية والتنموية» باعتبارها آلية واعدة، لأجل تعزيز التكامل التنموي ودعم فاعلية الاقتصاد الخليجي في مواجهة التحديات الراهنة، ومنها المفرزات السلبية للعولمة.

تجدر الإشارة إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة استضافت في جزيرة السعديات بالعاصمة أبوظبي، خلال شهر ديسمبر الماضي أعمال المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي «فكر 15». جاء ذلك بالتزامن مع الذكرى 45 لقيام دولة الإمارات، والذكرى 35 لإنشاء مجلس التعاون الخليجي، حيث ركزت هذه الدورة على التكامل العربي في الجوانب الفكرية والثقافية.

حريٌ بعلماء الأمة ومفكريها وأهل الاختصاص فيها مراجعة هذه النجاحات، والوقوف على أسبابها ومقوماتها، والتعرف على الآليات والمناهج، التي تم من خلالها مواجهة التحديات والعقبات، فذاك كنز معرفي ثمين، فهل من مذَّكِر؟