عبدالله مناع 

عربياً.. لا أظن أن أحداً سيودع - الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة - باراك أوباما.. بـ (الدموع) لحظة مغادرته البيت الأبيض بعد اثني عشر يوماً.. متوجهاً إلى بيت الأسرة في (شيكاغو) - هو وطفلتاه وحرمه السيدة الأولى ميشيل أوباما.. الأشد سمرة منه، والتي لم يجد الإعلام الأمريكي ما يجاملها به.. غير أن يطلق عليها لقب: (أكثر سيدات أمريكا أناقة)!!، فلم يعرف العالم العربي.. طوال سنوات معاناته مع الرئاسات الأمريكية المختلفة والمتباينة في تأييدها وإنكارها لـ (الحق الفلسطيني) في وطنه، سواء بموجب قرار (التقسيم) في 29 أكتوبر 1947م.. أو بموجب قرار (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام) الذي تبناه مجلس الأمن عام 2002م.. رئاسة أمريكية ديمقراطية (مراوغة) أكثر من رئاسة أوباما..؟! التي جاءت إلى البيت الأبيض في يناير من عام 2009م.. وهي ترفع شعار (التغيير)، ثم أعقبته في الرابع من شهر يونيه بأول زيارة افتتاحية خارجية للرئيس الجديد آنذاك.. إلى القاهرة، وإلى قاعة احتفالاتها الكبرى التي كان يلقي فيها الرئيس عبد الناصر أهم خطبه.. ليبسط من فوق منصتها ملامح (تغيير) العالم، التي جاء لإنجازها بعد فوزه بـ (الرئاسة الأمريكية).. بإقامة (عالم عادت فيه القوات الأمريكية إلى بلدها).. عالم (حيث الإسرائيليين والفلسطينيين يعيشون في أمان كل في دولته).. عالم (حيث تستخدم الطاقة النووية - فيه - لأغراض سلمية).. ليشيد بعد ذلك بـ (الإسلام) و(المسلمين)، ودورهم التنويري في نهضته، و(تنوير) أوروبا في قرون تخلفها.. مستشهداً بالآيات القرآنية، الواحدة بعد الأخرى.. حتى امتلأت قلوب المسلمين من مستمعيه بـ (امتداد) المعمورة أملاً في إمكان عودته إلى (الإسلام).. دين أبيه: (حسين أوباما)، ثم انتقل بعدها إلى الحديث عن معاناة الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين (لأكثر من ستين عاماً وهم يتحملون آلام التشرد.. في معسكرات اللاجئين في الضفة الغربية وغزة والأراضي العربية المجاورة.. بحثاً عن حياة سلمية آمنة لم يشهدوها، وهم يتحملون الإذلال اليومي المصاحب للاحتلال، لذا فليس هناك مجال للشك في أن الوضع بالنسبة للشعب الفلسطيني.. لا يحتمل، وأن أمريكا.. لن تدير ظهرها لتطلع الفلسطينيين المشروع للحصول على الكرامة وإقامة دولتهم المستقلة)؟! ليسجد العرب جميعاً -مسلمين ومسيحيين- حمداً وشكراً لله تعالى، الذي جاءهم أخيراً بهذا الرئيس الأمريكيالجديد.. لينقذهم وينصفهم ويرد إليهم حقوقهم الشرعية المغتصبة، وقد باتوا على يقين.. من أن الإعلان عن دولتهم المستقلة قد أصبح مسألة وقت.. لإجراء بعض المفاوضات الشكلية التكميلية، ليتم الإعلان بعدها بالتزامن في وقت واحد عن قيام الدولة الفلسطينية.. في كل من واشنطن وتل أبيب ورام الله..؟!

لكن تلك الصورة الوردية التي عبَّر عنها أوباما في جامعة القاهرة.. سرعان ما اختفت في السابع عشر من شهر ديسمبر من عام 2010م بإعلان أوباما الانسحاب من القضية كلها، ومن رعاية المفاوضات بين طرفيها الإسرائيلي والفلسطيني.. مباشرة أو غير مباشرة، وهو يترك لوزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك (إيهود باراك) شرح أسباب هذا الانسحاب.. بحجة انشغال الإدارة الأمريكية بملف الخلاف بين (الكوريتين)، وانفصال الجنوب السوداني.. ليترك أوباما العالم كله ذاهلاً، وهو يتساءل: أين أوباما يونيه 2009م.. وجامعة القاهرة والتنديد بـ(مظالم الاحتلال الإسرائيلي).. دون أن يجد إجابة عن تساؤلاته..!!

* * *

ثم جاءت دورة الانتخاب التالية.. حيث تم انتخابه لـ(دورة ثانية) في البيت الأبيض، والعالم العربي.. ما يزال يعيش أجواء خطابه الأشجع والأشهر والأهم في جامعة القاهرة، وما تبعها من تكليف لوزير خارجيته الجديد (جون كيري) بإجراء مفاوضات ماراثونية لتسعة أشهر بين الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي لإنجاز (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام).. رغم النهاية السرابية التي انتهت إليها تلك المفاوضات، وما تبعها على الجانب الفلسطيني.. من اتخاذ (قراره) بالذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على (الاعتراف) بالدولة الفلسطينية، فكان أن رأى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن يرفع هاتفه لـ(أوباما) مهنئاً، فهو ما يزال رئيس اللجنة الرباعية، وهو أُس البلاء في هذا الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أمريكياً.. فكان رده على التهنئة بـ(أن الإدارة الأمريكية تعارض القرار الفلسطيني بالذهاب للجمعية العمومية للحصول على مرتبة الدولة غير العضو أو الـ(عضو المراقب)!! ثم تابع ذلك بـ(معارضته) المثيرة والمخزية لاعتراف (السويد) التاريخي بـ(الدولة الفلسطينية)، ثم لحقه بعد ذلك.. باعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على رفع العلم الفلسطيني فوق صارية مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.. أسوة ببقية الدول الأعضاء التي ترفع أعلامها فوق صارية المبنى العتيد، وهكذا تلاحقت مواقف (أوباما) الثاني.. المعارضة لقيام الدولة الفلسطينية، لتمضي سنوات دورته الثانية.. في هذا الخبل السياسي، الذي ما كان يليق حتماً برئيس مؤهل في القانون من أكبر الجامعات الأمريكية (هارفارد)، إلى أن جاء الثالث والعشرين من شهر ديسمبر الماضي - ولم يبق له في البيت الأبيض سوى أيَّام معدودات.. تنتهي في صباح العشرين من هذا الشهر (يناير)، ليفاجئ العالم وأعضاء مجلس الأمن بـ(عدم) استخدام (حق الفيتو) ضد قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي في أراضي السلطة الفلسطينية، الذي تقدمت به فنزويلا ونيوزيلندا وماليزيا والسنغال، وأقره المجلس بكامل أعضائه الخمسة عشر.. بعد أن اكتفت الولايات المتحدة بالامتناع عن التصويت، وهو امتناع لا يعطل نفاذ القرار (2324) الذي صدر عن المجلس، واستقبله الأعضاء الأربعة عشر بعاصفة من التصفيق.. لأنه المدخل الحقيقي لـ(حل الدولتين)..؟

لقد كان قرار (أوباما) بعدم استخدام حق (الفيتو) والاكتفاء بالامتناع عن التصويت.. مفاجئاً للعالم، ومذهلاً لـ(العرب)، و(صادماً) لإسرائيل.. التي كانت تعتمد على (الفيتو) الأمريكي في كل جرائمها ضد الفلسطينيين والأراضي الفلسطينية، لتعيش به وفي حمايته فوق الجميع.. دون أن ينالها أي عقاب أو حتى (تساؤل) من المجتمع الدولي..!!

* * *

لقد ذهب بي الظن الطوباوي -دون شك- إلى أن أوباما اختار الامتناع عن استخدام (الفيتو) ضد قرار الإدانة لإسرائيل أمام فرصة هذا (القرار) الذي تقدمت به فنزويلا ونيوزيلندا، وماليزيا والسنغال.. والذي جاءه على طبق من ذهب في أيَّام الشفق من ولايته، ليكتب اسمه بأحرف من نور.. في التاريخ الأمريكي باعتباره أول رئيس أمريكي أسود يقول لـ(الظلم) الإسرائيلي: لا..!! أو أن حالة من عودة الوعي.. عاودته بعد سبع سنوات من خطابه الأعظم في جامعة القاهرة، فأراد أن يصلح بـ (قراره) هذا.. ما أفسدته تلك السنوات السبع الماضية التي جاءت بعد خطابه.. إنصافاً لدماء الضحايا الفلسطينيين الذين حصدهم جبروت القوة الإسرائيلية الطاغية الباغية: قتلاً وتدميراً وتهجيراً..؟

لكن ظهر أن هذه النظرة الطوباوية.. لم يعد لها ذلك الموقع في عالم السياسة، فما فعله أوباما بقراره.. كان صفعة لـ(نتنياهو)، الذي أخذ يتطاول على الرئاسة الأمريكية.. إلى جانب استخفافه بـ(أوباما) الرئيس الأمريكي الأسود.. وإلى الحد الذي جعله يقبل دعوة رئيس الكونجرس الأمريكي (جون بيتر) لإلقاء خطاب أمام الكونجرس -قبيل الانتخابات الإسرائيلية- من خلف ظهر الرئيس أوباما؟! وهي صفعة ستكلفه حياته السياسية ومستقبله السياسي دون شك.

* * *

على أي حال.. وأياً كانت أسباب امتناع (أوباما) عن استخدام حق الفيتو.. ضد قرار الإدانة للاستيطان الإسرائيلي، فإنَّ الفلسطينيين على الجانب المقابل كسبوا قراراً تاريخياً بـ(عدم شرعية) الاستيطان الإسرائيلي.. في أراضي السلطة الفلسطينية، وهو ما سيفتح لهم الأبواب لإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة.. بـ(عاصمتها): القدس الشرقية.. بعد قرار اليونسكو بـ(عروبة) أراضي المسجد الأقصى.. طال الزمن أم قصر.