سارة مطر
بتنا نسمع قصصا عن شباب يمتلكون مواهب ونجاحا دراسيا، وينحدرون من أسر عُرف عنها الصلاح والسيرة العطرة، لكن كل ذلك لم يمنعهم من السقوط في وحل الإرهاب
استمعت لأكثر من مرة إلى حديث والد الإرهابي "طايع الصيعري"، الذي لقي حتفه مؤخرا نتيجة تبادل إطلاق النار خلال محاولته الهرب من قبضة رجال الأمن، وذلك في حي الياسمين شمال الرياض، كما قتل معه رفيقه الإرهابي "طلال بن سمران الصاعدي"، أصخت السمع لأكثر من مرة للأب المفجوع لما آل إليه ابنه الذي امتدح أخلاقه وذكاءه في المدرسة، وعدّد شهادات التقدير التي حصل عليها، أتذكر جيدا وكأن ما حدث لم يكن إلا بالأمس، أثناء عزاء والدي، يرحمه الله، وقد كان في شهر مارس من العام المنصرم، حيث جاءت سيدة عرفت أسرتها وأسرة زوجها بالأخلاق الفاضلة الرفيعة، وقد نحل جسدها، وتكاد عيناها تخرجان من مقلتيهما من فرط الحزن والأسى، وقد فوجئت ببكائها ونحيبها الذي لم يكن ليتوقف ولو لدقيقة واحدة، وكأنها وجدت في محفل العزاء روحها المعذبة، لم تكن تستطيع أن تتحدث بحرف إلا وتسبقها دموعها الحارقة، ولم تخش من أن تبوح بسرها الذي يعذبها ويهلكها، فقد تم القبض على ابنها البكر ضمن الفئة الضالة، ابنها الذي ينطبق عليه ما قاله بالحرف الواحد الأب المكلوم سالم الصيعري، المشهد يتكرر أمامي بكل تفاصيله، عدا أن والد الإرهابي "طايع الصيعري" قد حبس دموعه، فيما أن السيدة لم تستطع أن تتعايش مع فكرة أن ابنها الذي حملته وهنا على وهن، وقد تحول من ابن بار لأمه وأبيه إلى إرهابي، فجأة ومن دون أن يكون هناك دافع حقيقي لانضمامه إلى الخلية الإرهابية، على الأخص أنه يحظى بحياة أسرية مستقرة، الشابان يتلاقيان في حصولهما على تربية صالحة، وذكاء مفعم يصل إلى حد النبوغ، كما وأنهما في ذات التخصص الجامعي، وهذا ما علينا أن نلقي الضوء عليه، حيث إن القائمين على تشكيل العصابات الإرهابية بدؤوا في اختيار جديد لعناصرهم، حيث يصبون اهتمامهم الآن على تجنيد الشباب الضالعين والموهوبين في الهندسة أو الكمبيوتر، حتى يمكن لهم الاعتماد عليهم في عمليات القتل والتدمير وإرهاب المواطنين والوافدين، على حد سواء.
طايع والشاب الآخر مثلا حزنا بليغا لأسرتيهما، وكان يمكن أن يكون لدى كل واحد منهما مستقبل بهي، ولكن للأسف الشديد أنانية بعض الأبناء تكاد تفوق الوصف، فهم لا يفكرون سوى في أنفسهم وتحقيق رغباتهم الذاتية، وطموحاتهم الفردية، فطالما أنهم يتبنون فكرا لا يمت إلى الدين الإسلامي بصلة، الأهم أن هذا الفكر يناسب أرواحهم الغارقة في مستنقع الأنانية، لذا هل نتخيل أو نتصور أنهم سيحملون هم مشاعر والديهم، أو حتى مشاعر الأسر الأخرى التي يقتل أحد من أفرادها بقنبلة ناسفة توضع أمام مسجد، أو في منطقة سكنية تعج بأناس أبرياء لا ذنب لهم بميولهم الانتحارية.
في وقت مضى كنا نسمع عددا من القصص عن شباب انضموا لتنظيمات إرهابية، لكن سير حياتهم باذخة بالطيش والمخدرات ومشاكل لا حصر لها مع أسرهم أو مع أفراد الحي، أما الآن فبتنا نسمع قصصا عن شباب يمتلكون مواهب وذكاء فطريا ونجاحا دراسيا، وينحدرون من أسر عُرف عنها الصلاح والسيرة العطرة، لكن كل ذلك لم يمنعهم من السقوط في وحل الإرهاب، "طايع الصيعري" يذهب للجهاد في سورية، ويتزوج وينجب طفلا، ويأتي إلى وطنه ليزرع عبوات المتفجرات والقنابل أمام بوابات المساجد، دون خوف من الله وهو الذي قال في محكم آياته "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا".
مشهد السيدة في العزاء بدا قاسيا ومجزعا، شكل حزنا آخر وهي تذرف الدمع من دون أن تتوقف ولو لبرهة، حتى إن المناديل الورقية التي كانت تدفع إليها واحدة تلو الأخرى، لم تكن كافية لكي تسد نهر دموعها المتدفق في العزاء، هل علم ابنها كم من الأسى الذي كبل به قلب والدته؟ لا أزال مصرة على أن بعض الأبناء غارقون في الأنانية التي لا يمكن لي وصفها أبدا، أنانية تقشعر لها الأبدان، فقط لكوني أحمل فكرا منغلقا وغاضبا مما يحدث حولي، فعلى من حولي أن يذهبوا إلى الجحيم، هذا ما يفكر به الشباب المغرر بهم.
أظن معظم المطلعين والمهتمين بالأخبار المحلية قد شاهدوا الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة العربية الإخبارية، عن كيفية مواجهة السعودية لإرهاب القاعدة، هل يذكر أحدكم المشهد الذي صوره الإرهابي وهو متوجه إلى حقل بقيق لكي يقوم بتفجير أنابيب البترول؟ لا تزال ضحكاته ترن في أذني فقد كانت تملأ السيارة المفخخة التي يركبها وهو يحدثه رفيقه عبر "الإنتركوم" اللاسلكي، ويقول له "أنا أحبك"، وذلك قبل سويعات من تنفيذه العملية داخل المصفاة، والتي نتج عنها استشهاد وإصابة سبعة من رجال الأمن الصناعي، وكذلك أربعة من موظفي شركة أرامكو السعودية، كل الضحايا ذهبوا نتيجة فكر مليء بالهلاوس والرغبة في القتل والتدمير وزعزعة الأمن، لقد كان هذا المشهد مخزيا وأحمق ومقززا، ويحتاج إلى دراسة نفسية متخصصة، ستلاحظ كم الجفاف العاطفي الذي يعيشه مثل هؤلاء الشباب، إنه يبتسم وهو يودع أصدقاءه، وهو يقتل هذا وذاك من دون أي رحمة، بئسا لهؤلاء الفاجرين في الأنانية الفكرية.
وكم أتمنى من الشاب الصغير الذي أودع في السجن منذ عام أن يقرأ مقالي هذا، ليشعر ولو بقليل من التعاطف مع دموع أمه التي لم تنقطع، وهي تحدثنا عن إخلاصه ومدى محبته العميقة لها، أي جرح وخذلان تركته يا هذا في قلب أمك؟
التعليقات