صالح القلاب
عندما تدق حتى صحيفة «الغارديان» البريطانية ناقوس الخطر وتنشر حقائق فعلية وبالأدلة الدامغة عن عمليات تغيير «ديموغرافي» ليس في دمشق العاصمة وحدها وضواحيها فقط، وإنما في مناطق الحدود السورية اللبنانية، فإن هذا يعني أن ما كان أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة» أصبح عنوان استيراد المزيد من المجموعات المذهبية (الشيعية)، الإيرانية وغير الإيرانية، وإقامة «مستوطنات» لهذه المجموعات، لم يعد من غير الجائز تشبيهها بالمستوطنات الإسرائيلية، إنْ في فلسطين أو في هضبة الجولان المحتلة.
وحسب «الغارديان»، فإنه بينما تسعى روسيا إلى وقف لإطلاق النار ومصالحة سياسية بين نظام الأسد والمعارضة، فإن إيران تسعى لاستكمال مشروع سيغير البنية الاجتماعية في سوريا، وسيعزز مواقع «حزب الله» في الشمال الشرقي للبنان، وسيعزز ويقوي السيطرة الإيرانية الممتدة من طهران وحتى حدود لبنان الشرقية.. إن الإيرانيين ومعهم النظام السوري لا يريدون أي وجود للمسلمين السنّة بين دمشق وحمص والحدود اللبنانية.. وإن هذا يتطلب تغييرات سكانية «ديموغرافية» تاريخية كبيرة في هذه المناطق الممتدة من دمشق وصولاً إلى معقل الأقلية العلوية في شمال غربي الأراضي السورية.
نسبت هذه الصحيفة إلى مسؤولين لبنانيين أنهم يعتقدون أن هناك «حرقًا» متعمدًا لمكاتب تسجيل العقارات في المناطق التي يسيطر عليها نظام بشار الأسد ليصبح من الصعب على المواطنين (السنّة) إثبات ملكيتهم لعقاراتهم في الزبداني وداريا وحمص والقصير... إن أحياءً كاملة في هذه المناطق قد تم تطهيرها من سكانها الأصليين، وإن العديد من هؤلاء السكان قد مُنِعوا من العودة إلى منازلهم بذريعة عدم وجود أدلة تثبت امتلاكهم لها، وهنا فإن «الغارديان» قد نسبت إلى أحد المتابعين لكل هذه التطورات قوله: «إن هذا لا يشكل تغييرًا للتوازن الديموغرافي لسوريا فقط، وإنما أيضًا لموازين القوى في هذه المنطقة كلها».
وحقيقة أنَّ الجديد في هذا كله هو أن عمليات الاستيطان الإيراني في سوريا أصبحت تتم بكتل بشرية كبيرة وعلى غرار ما جرى أخيرًا، حيث تم توطين ثلاثمائة عائلة «شيعية» تم استيرادها من أفغانستان ومن منطقة كويتا في باكستان، في إحدى قرى ضواحي دمشق الغربية بالقرب من الحدود مع لبنان، وهذا قد تم بعدما شملت هذه القرى عمليات التطهير المستمرة بإخراج كل أهلها «السنَّة» منها، وترحيلهم بقوة السلاح إلى منطقة إدلب، تحضيرًا لمذبحة كالمذبحة التي ارتُكِبَت في مدينة حلب التاريخية.
لقد أصبح الإيرانيون، وفقًا لمخطط بات معلنًا ومعروفًا وتحدث عنه معظم قادة إيران الكبار، وعلى رأسهم مرشد الثورة علي خامنئي، يسيطرون استيطانيًا على مناطق وعقارات كثيرة في دمشق القديمة نفسها، من بينها باب توما، ومن بينها العديد من فضاءات المسجد الأموي الذي من غير المستبعد أن يأتي يوم يتم فيه هدمه كما هُدمت كثير من الحوزات والمساجد السنية في العراق على مدى الفترة منذ عام 2002 وحتى الآن!!
والآن، وإذْ يتواصل حصول هذا كله، تجب العودة إلى ذلك التحذير المبكر الذي كان أطلقه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين في حديث لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في نهايات عام 2004، عبّر فيه عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال «جغرافي يكون تحت نفوذ الشيعة ويمتد إلى لبنان»... «وأن بروز مثل هذا الهلال يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار هذه المنطقة، وحيث إنه من الممكن أن يحمل متغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دولها»!!
ولعل هذا «الاستشراف» المبكر لأمور هذه المنطقة يدل على بعد نظر «استراتيجي» بالفعل، إذ إن هذا الهلال الشيعي، الذي لا يخجل كبار المسؤولين الإيرانيين من مواصلة الإعلان عنه والتغني به، بات قائمًا بالفعل، وأن طرفه الأول يبدأ باليمن، ويتجه نحو منطقة الخليج العربي والعراق، وينتهي طرفه الثاني عند ضاحية بيروت الجنوبية مرورًا بما أطلق عليه بشار الأسد اسم «سوريا المفيدة»، وصولاً إلى طرطوس وبانياس واللاذقية.
إن هذه الحقائق لم تعد خافية إلاّ على الذين يضعون أكفهم على عيونهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، والمفترض أن كل المعنيين بهذه الأمور قد سمعوا الولي الفقيه.. مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يتحدث عن هذه المسألة الخطيرة بصراحة ووضوح ويعتبرها واجبًا ألزم إيران به الإمام الخميني والتزمت به أيضًا منطلقات الثورة الإيرانية، التي اعتبرها أصحابها ومنذ اللحظة الأولى في فبراير (شباط) عام 1979، ثورة عالمية متحركة وعابرة للحدود القريبة والبعيدة.
لقد اعترف قائد حرس الثورة الإيرانية الجنرال محمد علي جعفري بأن تدخل إيران في اليمن وسوريا يأتي في إطار توسع خريطة الهلال الشيعي في المنطقة... وقد ادعى، أي الجعفري، أن «نظام الهيمنة الغربي» بات يخشى من توسع هذا الهلال الشيعي في المنطقة، الذي (على حد ادعائه) «يجمع المسلمين ويوحدهم»، والمقصود بالطبع هو الشيعة في إيران وسوريا واليمن والعراق ولبنان، وهنا تجب الإشارة إلى أن هذا الكلام قد كرره قاسم سليماني أكثر من مرة وكان قد كرره أيضًا عدد من كبار المسؤولين العراقيين الغارقين في المستنقع المذهبي والطائفي حتى آذانهم، ومن بينهم نوري المالكي وهادي العامري قائد الحشد الشعبي وغيرهما من الذين ظهروا على شاشات الفضائيات في منطقتي الموصل وحلب وهم يهددون بإعادة حركة التاريخ إلى ما يسمى «معركة الطفّ» في كربلاء.
وحقيقة أن عمليات الاستيطان المذهبي هذه، التي يقوم بها الإيرانيون الآن في سوريا بتسهيل يصل إلى حد التآمر من قبل بشار الأسد نفسه، كانت قد مهدت لها ما تسمى «جمعية المرتضى» التي كان أنشأها جميل الأسد، شقيق الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، لتقوم بـ«تنصير» السنة، أي حملهم على اعتناق المذهب النصيري (العلوي) خصوصًا في بادية الشام وبادية حمص وحماه والجزيرة، بحجة أن أهل هذه المناطق كانوا على المذهب النصيري (العلوي) قبل أن تجبرهم السلطات العثمانية على اعتناق المذهب السنّي، الذي يجب أن يعودوا إليه، وكانت هذه الجمعية قد أرسلت من أجل هذه الغاية العديد من البعثات إلى قم في إيران ليدرسوا في حوزاتها على أيدي كبار «آيات الله» من المراجع الشيعية.
والآن وقد وصلت الأمور إلى كل هذا الذي وصلت إليه، وأصبحت هناك «مستوطنات» مذهبية إيرانية في سوريا بالفعل، خصوصًا في دمشق الشام وضواحيها، فإنه لا بد من أخذ هذه الأمور بجدية متناهية، ومع التأكيد هنا على أن المقصود بـ«التشيع» هو التشيع السياسي، وهو الصفوية الجديدة، وهو تشيع ولاية الفقيه؛ فالمذهب الجعفري الاثني عشري الذي هو مذهب الشيعة العرب له كل التقدير والاحترام من قبل أهل السنّة وعلمائهم، والمعروف أن هناك من اعتبره مِن كبار أئمة السلف الصالح المذهبَ الإسلامي الخامس بعد المذهب الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي.
التعليقات