هدى الحسيني
سأل المسؤول الأميركي مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان: لماذا توقيت الاستفتاء الآن؟ وكان رفض كل الآراء بتأجيله.
قال بارزاني: بدأت حكومة بغداد تتسلم أسلحة ثقيلة ومتقدمة من الولايات المتحدة، بينها طائرات عسكرية، أي بعد سنوات قليلة ستميل كفة الميزان لصالح الجيش العراقي. ثم أخبر الضيف الأميركي ما يقلقه، وما يتوقعه هو أن «الشيعة بدعم من إيران انتصروا، والسنة العراقيين هُزموا؛ مدنهم كالموصل والأنبار كلها دمار، و(داعش) هزم، وبرز (الحشد الشعبي) الشيعي، وبحسبة صغيرة، لن يبقى أحد في وجه الحكومة العراقية و(الحشد الشعبي)، ومع جيش مسلح ستتجه الحراب ضدنا للقضاء علينا. لهذا لا بد من استباق الوقت والدعوة إلى الاستفتاء من أجل الاستقلال».
ويخبرني محدثي الأميركي، أن بارزاني رفض أي التزام عراقي أو وعود، لا يثق ببغداد. وجاءت الضمانات الأميركية قبل ليلة من الاستفتاء، بأن يجلس الأكراد والعراقيون على طاولة المفاوضات، من دون شروط مسبقة، وتطرح كل المواضيع التي تهم الأكراد وتهم العراقيين، بما فيها الاستقلال. الأميركيون عرضوا أن يلتزموا خطياً بهذا العرض وبنتائج المفاوضات، أما رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي فقال إنه سيحترم رغبة الأكراد. عندما وصل هذا العرض إلى طاولة مسعود كان تعليقه: «لقاء جاء متأخراً»، إذ إن العرض الأميركي بالضمانات المكتوبة كان يقترح تأجيل الاستفتاء. قال مسعود بارزاني لضيفه: «لقد جيشت كل الشارع الكردي، إنه يتطلع إلى الاستفتاء على أنه حياته ومستقبله، لا يمكنني أن أبلغه بتأجيل الاستفتاء، وإذا فعلت عليّ أن أبحث عن جزيرة منفية ألجأ إليها، لأنني سأفقد كل ثقة شعبي».
لم يكن بارزاني بعد كل الجهود التي بذلها مستعداً لأن يشتت ما جمعه. فهو حكم طويلاً، وبدأت أحزاب أخرى تصعد وتعارض وتنشق، أراد لعب دور تاريخي كزعيم أكبر، فدعا إلى استفتاء من أجل الاستقلال. لبت الدعوة كل الأحزاب الأخرى المتفهمة والمعارضة، وعاد لمسعود بارزاني دوره القيادي.
منذ الاستفتاء والأكراد لا يسمعون إلا التهديدات من الدول المجاورة، وكلها تحاول إرضاء حكومة بغداد، لكن من يستطيع معاقبة إقليم بأكمله و5 ملايين إنسان؟
هنا يأتي دور المملكة العربية السعودية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع بغداد وحيدر العبادي ومع إقليم كردستان. هي الدولة الوحيدة القادرة على دعوة الرئيسين للتفاوض وبإشرافها. يتردد أن العبادي صار متقبلاً لعراق كونفدرالي، ويجب التشجيع على ذلك، لأن هذا النظام يعطي السنّة العرب أرضاً وحقوقاً ووجوداً في العراق العربي، ويقلص كثيراً من النفوذ الإيراني، خصوصاً أن عراقاً كونفدرالياً تجاور فيه أراضي الأكراد أراضي السنّة، فتشكلان كتلة متصلة ببعضها ببعض ومتوازية مع الأراضي الشيعية، ويمكن لهذه الأرض الممتدة أن تمهد لتوزيع النفط من شمال العراق عبر الأراضي السنية فيه حتى الأردن، ويمكن لها أن تشطر «المد البري» الإيراني من العراق إلى سوريا إلى لبنان حيث «حزب الله».
إن استفتاء «كردستان حرة» الذي ضم كركوك الغنية بالنفط ليس مقبولاً من قبل الحكومات المركزية الإقليمية. غير أن الأكراد في المنطقة يرون فيه الخطوة الأولى لتأثير الدومينو على الحركات الكردية الانفصالية في الدول الأربع التي فيها وجود كردي. وكما صوّت أكراد العراق لصالح كردستان حرة، فإن الأكراد في سوريا الذين تعتبرهم تركيا إرهابيين، وبدعم من الولايات المتحدة يطبقون خطة لإقامة نظام برلماني كردستاني في سوريا.
في نظر الحكومات المعنية بالأكراد، فإن مسألة حق تقرير المصير الكردي والاستقلال، ليست مسألة وحدة الأراضي، بل إنها أيضاً الطريق إلى مزيد من الحروب المتعددة الأبعاد في منطقة تتحرك فيها ومنذ سنوات حروب أهلية وعرقية وطائفية وتدمرها.
الولايات المتحدة وأوروبا انتقدتا استفتاء 25 سبتمبر (أيلول) الماضي، لم تعارضاه بل عارضتا توقيته. في المقابل دعمت إسرائيل الاستفتاء، فتمت ترجمة هذا الدعم على يد المعروفين في هذه المناسبات، على أن هناك «أجندة خفية» أميركية تهدف إلى مزيد من التقسيم وإضعاف أي معارضة للمصالح الأميركية. وكان أكثر الناقمين أمين عام «حزب الله» في لبنان السيد حسن نصر الله، الذي اعتبر أن كل ما يدور خارج نطاق آرائه إنما هو موجه أميركياً وسعودياً وإسرائيلياً ضد إيران، إلى درجة أنه يوم السبت الماضي، حذر من «سلام فلسطيني - إسرائيلي» يدرس، وحذر الفلسطينيين من القبول به، لأن أي مصالحة فلسطينية، وأي سلام مع إسرائيل إنما هو للاستفراد بإيران وبمحور المقاومة.
تركيا وإيران والعراق هددت بعمل عسكري ضد كردستان العراق. التقارب بين الدول الثلاث سطحي، وأي احتمال لعمل عسكري فردي أو جماعي من شأنه أن يؤدي إلى عواقب جسيمة. والخطر الكبير أن أي عمل عسكري من قبل هذه الدول سيجبر قوات البيشمركة الكردية، على تحويل تركيزها المناهض لتنظيم داعش نحو المعتدي الجديد، مما يتيح لمقاتلي «داعش» المتراجعين فرصة إعادة تجميع أنفسهم، وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة أو روسيا أن يحدث.
ثم إن بغداد، وعلى الرغم من لهجتها المتشددة، فحكومتها ضعيفة وسجلها في العمليات ضد «داعش» ضعيف، كذلك معالجتها للانقسامات العرقية داخل العراق. ومن دون دعم خارجي (إيران) لا تستطيع حكومة بغداد الوقوف في وجه قوات البيشمركة. بالنسبة إلى الحكومة السورية، وبما أن الروس لديهم مصلحة لدى أكراد العراق - حقول نفط كركوك تحت سيطرتهم - فمن المرجح أن تبقي دمشق الأكراد سعداء لديها، ويذكر أن روسيا استثمرت العام الماضي أكثر من 4 مليارات دولار في قطاع الطاقة في كردستان العراق، متجاوزة الولايات المتحدة كأكبر مستثمر.
أما تركيا فإنها ولفترة طويلة كانت متحالفة مع مسعود بارزاني. في المقابل يعارض الأخير حزب العمال الكردستاني، وتظل تركيا الداعم الأكبر اقتصادياً لكردستان، هناك 1730 شركة تركية في الإقليم، كما أن شركة تركية بنت مطار أربيل، الذي حتى الأزمة الأخيرة، لم تكن أي طائرة تهبط فيه من دون أخذ الإذن من بغداد. وإذا راجعنا أعمال إردوغان منذ الأزمة، فإنها لم تعكس تصريحاته النارية. كلامه كان غاضباً لكن أفعاله كانت محسوبة، مقارنة مع إيران التي أغلقت أجواءها ونصحت بغداد بنشر قوات عراقية على نقاط الحدود بينها وبين كردستان.
قد يقدم إردوغان على زيادة التعرفة على الأكراد لنقل نفطهم عبر الأراضي التركية، وقد يهددهم بأنه سيدفع عائدات النفط إلى حكومة بغداد. ولن يقدم على عمل عسكري كي لا يعرض المصالح الروسية هناك للخطر، وأيضاً مصالح رجال الأعمال الأتراك.
يقول مصدر تركي إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحث مع إردوغان أنبوب نفط كركوك - جيهان، فشركة «روزنفت» الروسية ترغب بإبقاء الأنبوب مفتوحاً وترى موسكو عائدات حكومة إقليم كردستان كعائد على استثماراتها، ودون خط الأنابيب أو الحدود المفتوحة، أو المدفوعات من بغداد إلى أربيل، فسوف تنهار حكومة كردستان مما يشكل كارثة بالنسبة للمشروع الروسي.
قد تتحرك إيران ضد بارزاني عبر بغداد والميليشيات الشيعية التي تحت نفوذها. لكن في هذه الحالة بالذات سيأتي الدعم من أميركا ومن إسرائيل، الذي تحدث عنه حسن نصر الله، ولن تتأخر دول أخرى في تقديم دعمها واللعب في الفناء الخلفي لإيران.
لقد وضعت مشكلة كردستان التي فجرها بارزاني الدول الأربع في زاوية صعبة جداً؛ إذا قامت بعمل ضد الأكراد فإنها تخاطر بحرب كبرى تنتفي فيها الحروب بالوكالة. وإذا لم تقدم هذه الدول على أي عمل، فإنها تعطي أكراد العراق فرصة إعلان حريتهم فيلحق بهم إخوتهم في تركيا وإيران وسوريا. والنتيجة في نهاية هذا المسار دموية جداً.
إن من يعتقد أن الولايات المتحدة تفقد تأثيرها في المنطقة مخطئ. والحروب بالوكالة عبر الميليشيات، والتي طال أمدها للهيمنة على الشرق الأوسط، ستعود أخيراً إلى «البيوت» التي خرجت منها، ستعود إلى إيران وتركيا.
التعليقات