رضوان السيد
جاهَرَ الإيرانيون منذ مدة بأنهم لا يريدون أن يكون عنوان المنطقة: المشرق العربي. وفي مناطق نفوذهم بالعراق وسوريا ولبنان، لا يتحدث أحد عن العرب إلا على سبيل التعيير والذمّ، لأنّ القومية شرٌّ أساساً،
ولأن العرب استسلموا لأميركا وإسرائيل! لكنهم أيضاً لا يُحبّذون تعبير «الشرق الأوسط» الذي يستخدمه الغربيون، لأنه مشروع أميركي للمنطقة لا يجوز قبوله وأساسه تبرير إقامة الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. لكن ما هي التسمية أو العنوان الذي يختارونه؟ هم لا يتحدثون عن ذلك عَلَناً، لكنهم لا يحبون أيضاً العنوان الإسلامي، مع أنهم «ثورة إسلامية»، وذلك لأن معظم سكّان المنطقة من العرب السّنّة، وإيران اليوم في نظامها دولة طائفية ومذهبية حتى في دستورها. وكلامهم الرسمي عن «المحور» الممتد من طهران إلى بيروت عبر العراق وسوريا. واعتماده في امتداده على الميليشيات الشيعية التي شكلتها وسلحتها طهران، وقد استجلبت بعضها من أفغانستان وباكستان والعراق خلال النزاع السوري. وهناك أحد تكتيكين في نشر الدعوة والسيطرة في المحور وعلى أطرافه: إما الاستيلاء بالقوة المسلّحة على السلطة مثلما يحدث في لبنان، أو التغلغل في أوصال البلاد كما يحدث في العراق وسوريا، وبخاصة في مناطق الكثافة السنية (الأنبار وديالى ونينوى بالعراق ودمشق وضواحيها وإلى القلمون وحمص والشمال والشرق، كما في سوريا). وخلال ذلك، ولأن يد إيران طليقة في البلدان الثلاثة، لا مانع من تعديل ديموغرافي بالوسيلتين معاً: التهجير والإحلال والاستيلاء على طريقة إسرائيل في فلسطين المحتلة، وفرض التشيع على السكان الفقراء الباقين في منازلهم وبلداتهم أو العائدين إليها.
سياسات إيران هذه تجاه البلاد العربية (حتى في البحرين والكويت واليمن)، سابقة على الاضطراب العربي خلال السنوات الست الماضية. لكنها تزايدت خلال الاضطراب، وذلك إمّا لإفشال التغيير الذي اعتبرته ضدّها كما في العراق وسوريا واليمن، وإمّا لفرض نظام سياسي آخر يكون عميلاً لها وداخلاً في المحور كما في حالتي اليمن وغزة. لكنها وهي تلعب وتقسّم وتشرذِم وتُمذْهِب، تتذاكى بوساطة «حزب الله» وسليماني إلى حدود المآل إلى عكس أهدافها الأصلية. وهذا ما حصل في كردستان العراق. فقد استقطبت حزب جلال الطالباني في السليمانية (الأقرب لحدودها)، وشجعّت الانقسام بينه وبين حزب مسعود البارزاني. وعندما هجم تنظيم «داعش» على منطقة البارزاني عام 2014، تغلبت عليه في الشهور الأولى اعتبارات التصارُع مع تركيا، لأنّها اعتبرت أنّ الأخيرة وراء «داعش». وامتد هذا التصارُع إلى سوريا، فوقفت مع الأكراد هناك، وسهّلت دخول مليشيا «حزب العمال» الذي يقاتل منذ ثلاثة عقود ضد تركيا بالداخل وفي الجوار العراقي والإيراني. لذا أيضاً سمحت لحزب العمال بإقامة قواعد في منطقة سنجار العراقية لوقوعها في موقع متوسط بين الحدود التركية والسورية.
كل ذلك جرى عليه اضطرابٌ كبير، عندما تقدم لديها كما لدى تركيا الخطر الكردي، وفي العراق كما في سوريا. حاولت تركيا منذ عام 2004 مدّ نفوذها إلى سوريا عبر النظام السوري. إنما مع بداية الاضطراب العربي، صار لديها تكتيكان بديلان: ركوب حركة «الإخوان المسلمين» الإرهابية في الدواخل العربية، ومنها سوريا ومصر والعراق وتونس وغزة، ومنع بروز الأكراد على حدودها ككيانات مستقلة في سوريا وفي العراق. وعلى هذا فقد أقامت علاقات متميزة مع البارزاني من جهة، وما انزعجت كثيراً لظهور «داعش»، لأنه هجم على المناطق الكردية في سوريا والعراق. واستمر الصراع أو التنافُس مع إيران لثلاث سنوات على خطوط التماس بين سوريا والعراق وتركيا والدائرة الكردية المبرقشة على خط تلعفر كركوك سنجار سوريا تركيا. وعلى هذه الدائرة وخطوطها وجد السنة العرب بعض الراحة لوقوعهم لسنوات في خضم الحرب الإيرانية العراقية الأسدية عليهم.
وما انجلى غبار المعارك بعد. لكنْ ظهر عاملان جديدان في منطقة الجزيرة الفراتية ومن حولها في العامين الآخرين: الولايات المتحدة وروسيا. فقد تدخلت الولايات المتحدة لصالح الأكراد وضد «داعش» في العراق وسوريا، وهمّشت مؤقتاً إيران وتركيا. وتدخلت روسيا لنُصرة النظام السوري، وتركت مكافحة الإرهاب للآخِر. وجعل ذلك كلاً من إيران وتركيا تقتربان من روسيا، حتى برز تحالُفٌ واضحٌ مع بداية عام 2017 ترعاه موسكو، وتريد تحويله لغير صالح الولايات المتحدة. لذلك حدث الالتقاء بين إيران وتركيا في نقطتين: ضد قيام كيانات كردية على حدودهما، واستخدام المظلة الروسية لمواجهة الخطط الأميركية في المنطقة.
ما انجلى المشهد عن أفق واضح، وهو يمر بمخاضٍ كبير بعد قُرب الإعلان عن سياسات أميركية جديدة ضد إيران.
التعليقات