الياس حرفوش

أزمة العلاقة بين الأكراد والحكومة المركزية في بغداد ليست جديدة ولا هي فريدة من نوعها. إنها أزمة تواجه عدداً من الدول التي يحكمها نظام اتحادي (فدرالي) كما هو حال العراق، في تعاطي المركز مع مختلف مقاطعاته أو حكوماته المحلية. وفي السنوات الأخيرة، أخذنا نشهد تصدعاً متزايداً في علاقة المركز بالأطراف، حتى في دول معروفة بعراقتها الديموقراطية وبتعاطيها السلس مع «أطرافها». من الأمثلة على ذلك ما حصل في اسكتلندا التي اختارت البقاء ضمن المملكة المتحدة، وما نشهده حالياً من صراع بين مدريد وبرشلونة حول حق إقليم كاتالونيا في الانفصال عن المملكة الإسبانية. حتى مدينة البندقية، إحدى تحف إيطاليا السياحية والمعمارية، تبحث عن سبيل للفكاك من «هيمنة» روما. كل ذلك على رغم أن حقوق القوميات المختلفة في هذه الدول مضمونة ومعترف بها أكثر مما هو حال الأكراد في العراق أو في المنطقة العربية في شكل عام.

لا جديد إذاً في سعي الاكراد الى اثبات هويتهم العرقية الخاصة من خلال مشروع سياسي مستقل. ومن المبالغة القول إن هذا المشروع قد هُزم بعد «استعادة» مدينة كركوك من قبل قوات الحكومة الاتحادية. فكركوك أساساً ليست مدينة ذات اكثرية كردية ليقال إن الأكراد «هُزموا» فيها. كما أن دخول «البيشميركة» إلى كركوك سنة 2014 حماها من سيطرة تنظيم «داعش»، عندما انسحب الجيش العراقي من وجه التنظيم الإرهابي، كما فعل في الموصل، التي انتهت مدمّرة ثمناً لإعادتها إلى حظيرة العراق.

فوق ذلك، سوف تعزز «استعادة» كركوك، بالطريقة التي تمت بها، مشاعر عدم انتماء الأكراد إلى العراق، خصوصاً في ظل مظاهر الاحتفال التي سادت، والتي غلبت عليها أعلام ايران وشعارات «الحشد الشعبي»، على رغم مساعي رئيس حكومة العراق حيدر العبادي إعطاء الاحتفالات طابعاً وطنياً، ومساعيه إلى تطمين الأكراد إلى حرص «وطنهم» عليهم. وكانت لافتة دعوة المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، إلى ضرورة توفير الأمن للأكراد، بعدما أخذ عشرات الآلاف من أبناء كركوك الكرد يهجرون مدينتهم.

قد يصح اعتبار سيطرة الجيش العراقي بدعم من فصائل «الحشد الشعبي» على كركوك هزيمة لمسعود بارزاني، ورداً على خطأ ضم هذه المدينة المتنازع عليها إلى الاستفتاء على استقلال الإقليم. لكن هناك مبالغة في التفاؤل عند استنتاج أن معركة كركوك ستكون مدخلاً إلى استعادة لحمة العراق، وتماسك مختلف مكوناته، وخصوصاً العربية والكردية منها. ذلك أن مشكلة كركوك، التي تعود الى زمن صدام حسين، ومساعيه لـ «تعريب» المدينة من خلال تغيير وضعها الديموغرافي، لن تجد حلاً إلا بمشاركة أهلها كلهم، وليس بهيمنة فريق منهم على الآخرين.

ما بعد كركوك قد يعيد طموحات الأكراد إلى أرض الواقع، وقد يعلمهم شيئاً من فن السياسة، بعيداً من المغامرات والحسابات الخاطئة. لكن ما يلي هذه المعركة يفترض أن يوقظ الحكومة المركزية في بغداد من حلمها بأنها في الطريق إلى بسط سلطتها على كامل أراضي العراق. أولاً لأن بسط هذه السلطة لا يمكن أن يتم بالقوة المجردة وحدها، وإلا تحوّل إلى إخضاع قسم من المواطنين، أكثر مما هو كسب ولائهم، الذي يفترض ان يكون طبيعياً، لوطنهم. وثانياً، وهذا الأهم، أن بسط هذه السلطة يتم بمؤازرة قوة مسلحة، رديفة للقوات الشرعية العراقية، لها هويتها المذهبية الفاقعة التي أظهرت انتماءها من خلال الرايات والاعلام التي رفعتها تحدياً في شوارع كركوك بعد «تحريرها». ومن شأن إدخال قوة بهذه المواصفات، ولو وصفت نفسها بأنها «حشد شعبي»، أن يثير الهلع في نفوس مواطنين يتحصنون أصلاً خلف انتمائهم القومي، ويحتمون بأحزابهم الخاصة وبميليشياتهم، لأنهم لا يميلون إلى الثقة بمشروع الدولة ولا بقواتها المسلحة. لذلك وجدنا عشرات الآلاف منهم يفرون من كركوك إلى أربيل والسليمانية، لأنهم يشعرون بأن هاتين المدينتين أكثر قدرة بالتالي على توفير الاطمئنان لهم ولمستقبل عائلاتهم.

لا تضع استعادة كركوك نهاية لحلم أكراد العراق. ينتهي حلم الأكراد عندما يشعرون بأن البلد الذي يعيشون فيه يحمي مصالحهم كما يحمي مصالح الآخرين، عرباً وكرداً، سنّة وشيعة ومسيحيين. لكن عندما يشارك قاسم سليماني في الإشراف على معركة كركوك، فمن شأن ذلك أن يعزز شعور الأكراد، كما شعور كثيرين في العراق وخارجه، بأن طهران شريك فاعل في قرار القيادة في بغداد، إن لم تكن صاحبة القرار الوحيدة.