كل خطوة تخطوها الحكومة العراقية باتجاه ترميم علاقاتها بحاضنتها الخليجية والعربية، هي خطوة جميلة وتبعث على السعادة وتلقى الترحيب على المستويين الأهلي والرسمي، وليس في ذلك وجه غرابة، ذلك أن العراق، بتاريخ شعبه وجيشه، كان وسيبقى رافدًا من روافد الأمن القومي العربي عمومًا والخليجي على وجه الخصوص. فالخليج العربي، تاريخيًا، وحدة إقليمية تتهددها مخاطر الهيمنة الإيرانية، والعراق واحدة من الدول التي لها ثقلها، ويحسب لها إذا ما هي وجهت قواها ومقدراتها للدفاع عن الخليج العربي الذي تتزايد مشاكله كل يوم مع تعاظم أحلام ملالي إيران بنشر فكر التشيع في الإقليم وتوسيع هيمنتهم السياسية.

 لكن يبدو أن دولة العراق تحتاج إلى الكثير من الوقت لتتحرر من سطوة الأيديولوجيا المذهبية، ومن الخلاص من النفوذ الإيراني المتزايد الذي يتحكم في صاحب القرار العراقي. في هذا الإطار يمثل أمامنا تساؤل من وحي رفض الحكومة العراقية لتصريحات وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون التي أدلى بها في بداية الأسبوع الجاري في مؤتمره الصحفي الذي جمعه مع عادل الجبير وزير خارجية المملكة العربية السعودية، مفاده هل كان رفض الحكومة العراقية لتصريحات وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون مبررًا ويبعث على فخر وطني وجب توظيفه للدفاع عن فصائل وطنية مثلا، في ظل ما يتوارد من أنباء عن السلوك المشين لمليشيات الحشد الشعبي التي تمتثل لأوامر مباشرة من قاسم سليماني، حتى وإن تبنت الحكومة العراقية رعايتها لها ووضعها تحت مظلتها؟

 في تقديري الشخصي إن المسارعة إلى رفض هذه التصريحات وفلسفتها واعتبارها تدخلاً في الشأن العراقي لا تقنع المتابع لمجريات حراك هذا الحشد في عموم مشاركاته تحت غطاء الجيش العراقي أو خارجه في حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش». ثم إن الخلفية الفكرية والعقائدية التي في ضوئها نشأ هذا التنظيم وما تهيأ له من فزعة طائفية في البرلمان العراقي قصد وضعه تحت رعاية الدولة لا ولن يبعث على الفخر لدولة عراقية ذات تاريخ مجيد. ميليشيا «الحشد الشعبي» تكسر رهانات الدولة على بناء دولة مدنية مستقلة القرار. 

 لا شك في أن عمل الجيش العراقي لمقنع في حربه لتحرير المحافظات والمناطق التي احتلها تنظيم «داعش» ويقوم بواجبه الوطني لدحر فلوله وتخليص المجتمع العراقي منه، ويستحق في ذلك كل الدعم من البلدان العربية والتحالف الدولي، لكن هل «الحشد الشعبي» فيما كان يظهره من أنفاس مذهبية طائفية مقيتة ضد العراقيين الأبرياء من أبناء المحافظات بحسب ما نشره الإعلام مقروءًا ومصورًا في حربه المذهبية الطائفية التي يشنها في كل اتجاه، في الفلوجة كما في الرمادي وفي الموصل كما في كركوك، كيف يمكن اعتبار سلوكه الطائفي الطائش جزءًا من الحراك التحرري ضد القوات المحتلة؟ لقد أبدت ميليشيات الحشد الشعبي في كل ما خاضته من حروب سلوكات مريبة في مقاصدها التي تشترك في التفنن في دق أسافين الفرقة بين مكونات عراق عرف منذ أقدم العهود أنه يستمد قوته وتفرده من محافظته على تنوع مكوناته العرقية والمذهبية والدينية، وفي عزل العراق عن جيرانه وإخوانه في الخليج العربي، ولعل تعديدًا بسيطًا لما أتاه هذا الحشد الشعبي المزعوم يجعل كل الملاحظين والمحللين يجمعون على أن ولاء هذا التشكيل «الميليشياوي» للعراق مشكوك فيه، ناهيك عن ولائه لقوميته العربية حتى يثبت العكس. حراك الحشد الشعبي في العراق كان دائمًا محل شكوك ومثارًا للتساؤلات منذ سقوط نظام صدام حسين، فكل ما صدر عنه لا مستفيد منه إلا ملالي طهران وسادات الحرس الثوري فيها.

 لقد كان كلام المصدر العراقي الذي تحدث باسم الحكومة العراقية في رده على تصريح تيلرسون مثيرًا للسخرية عندما أشار إلى أن «المقاتلين في صفوف هيئة الحشد الشعبي هم عراقيون وطنيون قدموا التضحيات الجسام للدفاع عن بلادهم وعن الشعب العراقي...»، أقول مثيرًا للسخرية لأن مثل هذا الكلام لا ينطلي لا على الشعب العراقي ولا على الرأي العام العالمي، فالكل على علم بالمحرضات المذهبية والدوافع العنصرية التي دعت إلى تشكيل هذه الميليشيات. فقد كان تشكيل جلها تلبية لنداء من السيستاني الذي من المفروض ألا شأن له بالدولة العراقية من حيث إنها كيان سياسي.

 ألصقت صفة الشعبي بالحشد لإيهام المواطن العراقي بوطنية هذه الميليشيات، فهذا الحشد لا يمثل إلا طيفًا اجتماعيًا واحدًا من مذهب إسلامي واحد هو المذهب الشيعي، بل إني لأجزم أنه من تيار بعينه من تيارات المذهب الشيعي. وما يزيد الطين بلة هو أن هذا الطيف قد جمع غلاة المذهبيين الذين لا يحملون غير الضغينة تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى والمكونات الاجتماعية الأخرى، ولا يزرعون حيثما مروا إلا العلامات الدالة على حجم هذه الكراهية وعمق النزعات التدميرية التي توجهها. كما أن قيادات هذا الحشد غير الشعبي حاربت الجيش العراقي نفسه، وقد أقامت المشانق لإعدام الجنود العراقيين على الحدود بين العراق وإيران إبان الحرب بين البلدين في الثمانينات، مثلما كان يفعل هادي العامري رئيس الحشد ونائبه أبومهدي المهندس، أفبعد هذا شك في هوية هذا الحشد وهوية الطرف المستفيد من جرائمه؟!

 يمثل الحشد غير الشعبي هذا في جوهر تأسيسه حالة نشاز في جسم الدولة العراقية، وجاء الهدف من بعثه ليكون النافذة المشرعة لتسهيل التدخل الإيراني، والميسرة لإحكام قبضة الحرس الثوري الإيراني على الشؤون الداخلية العراقية. لهذا تدفع إيران إلى بقاء هذه الفصائل متفرقة وتحول دون ادماجها في قوات الجيش، ليسهل لها عملية التأثير فيها. وفي اعتقادي أن استمرار وضع الميليشيات تحت رعاية دولة ضعيفة مع ارتباط قادة هذه الميليشيات الوجداني والمذهبي بالإيرانيين يؤسس لتفوق هذه الميليشيات على مؤسسة الجيش ويخلق جسمًا سرطانيًا شبيهًا بالحرس الثوري الإيراني وبميليشيات حسن نصر الله في لبنان.

 أمام المجتمع العراقي رهان مصيري من عناوينه الأبرز المحافظة على وحدته المبنية على التعدد والتنوع، ورد الاعتبار إلى هيبة الدولة وضمان سيادية القرار الوطني العراقي، ومن أجل هذا كله فإن الحشد غير الشعبي فخ إيراني على العراقيين العمل على تفكيكه إذا أريد للمجتمع العراقي الاستقرار وتجاوز إرث التفكيك والتشظي والاحتراب الذي تراهن إيران على ديمومته حفظا لمصالحها.