ليونيد بيرشيدسكي

يعتقد أولئك الذين يبحثون دوماً عن الأزمات الأوروبية المقبلة، وأنصار «البريكست» من بينهم، أن «الانفصال» الرمزي في كاتالونيا يعد علامة جديدة على أن أوروبا ليست على ما يرام. ومع ذلك، فإن الأحداث في كاتالونيا تؤكد فقط أن بلدان أوروبا الغربية عصية على الانفصال، وأنها أكبر من أن تفشل أو تنقسم. وبلجيكا، وهي الدولة التي يختبئ فيها حالياً كارليس بوتشيمون، رئيس الوزراء في كاتالونيا، محاولاً الفرار من الملاحقات القضائية (أو قيادة الحكومة من المنفى، من وجهة نظر الانفصاليين في كاتالونيا) هو مثال آخر جيد في هذا الصدد.

ويوجد بوتشيمون، الذي تلقى إخطاراً بالمثول أمام المحكمة في مدريد، الخميس، لاتهامات تتعلق بالتمرد، وإثارة الفتن الداخلية، وإساءة استخدام الأموال العامة، حالياً في بلجيكا؛ وذلك لأن هذه الدولة على وجه التحديد توجد فيها حركة انفصالية داخلية تشبه حركة إقليم كاتالونيا في كثير من المناحي، وهي حركة قوية في الجزء الفلمنكي الأكثر ثراءً وديناميكية من الناحية الاقتصادية في البلاد. 

يُذكر أن كاتالونيا، التي تضم 16 في المائة من سكان إسبانيا، توفر نحو 26 في المائة من صادرات البلاد. أما سكان الإقليم الفلمنكي في بلجيكا، الذي يضم 58 في المائة من سكان البلاد، يوفر 82 في المائة من إجمالي الصادرات.

جدير بالذكر، من الناحية التاريخية، أن الحزب الانفصالي البلجيكي، ويحمل اسم الائتلاف الفلمنكي الجديد، شريك في الائتلاف الحاكم البلجيكي تحت رئاسة تشارلز ميشال رئيس وزراء البلاد وزعيم «الحركة الإصلاحية»، أحد الأحزاب الفرانكفونية. 

ويسيطر الحزب على بعض الحقائب الرئيسية في الحكومة، بما في ذلك وزارة الهجرة. وكان لـثيو فرانكن، وزير الهجرة البلجيكي، آراء متعاطفة حيال معضلة بوتشيمون، على الرغم من أن ميشال قد أوضح أنها آراء شخصية لا ترقى إلى أي نوع من أنواع الدعوات الرسمية. 

غير أن السياسي الكاتالوني سيئ الحظ يتطلع دوماً إلى أي دعم ولو غير رسمي من زملائه في الائتلاف الفلمنكي الجديد، ويستند إلى نمط الدفاع القانوني الكفء الذي وفّره المحامي البلجيكي بول بيكيرت فيما سبق إلى انفصاليي إقليم الباسك الذين قاوموا التسليم من بلجيكا إلى إسبانيا. ولكن الطبيعة غير الرسمية لشبكة الدعم المشكورة تشير إلى التشابه الرئيسي بين الحركات الانفصالية الفلمنكية والكاتالونية، وهو أنه على الرغم من الخطاب القوي المؤيد للاستقلال، فإن الأمر يدور في الواقع حول قضية الحكم الذاتي واللامركزية، وليس الانفصال والاستقلال التام.

كما أن ثمة أوجهاً أخرى للتشابه؛ فعلى سبيل المثال، كل من الانفصاليين في كاتالونيا والائتلاف الفلمنكي الجديد من الحركات الجمهورية داخل أنظمة ملكية، وكلاهما يعمل لصالح لغة محلية أضعف (اللغة الكاتالونية، واللهجة الفلمنكية من اللغة الهولندية) في ظل وجود لغة دولية أقوى، وكلتا الحركتين تسعى وراء المزيد من السيطرة على تقاسم الثروات المحلية داخل الأقاليم الأكبر مساحة والأكثر فقراً في البلاد. 

إلا أن الحركة الفلمنكية، بالنظر إلى القوة العددية والاقتصادية، كان أداؤها أفضل بكثير عن الحركة الكاتالونية وفق ما وصفته مارسيل غيرارد من جامعة لوفين الكاثوليكية البلجيكية بأنه «لعبة متكررة وربما لا نهاية لها» تدور حول انتقال السلطة. ومن الناحية السياسية، فإن بلجيكا هي اتحاد ضعيف تتميز الأقاليم الداخلية في إطاره بقوة استثنائية. وفي الآونة الأخيرة، تسبب برلمان إقليم والون المحلي في عرقلة اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وكندا؛ وذلك لعجز بلجيكا عن الموافقة على الاتفاقية من دون موافقة برلمانات الأقاليم الداخلية.

وفي الإصلاح الأخير للاتحاد البلجيكي، والذي بدأ عام 2011، نجح الفلمنكيون في تقسيم شبكة الضمان الاجتماعي في البلاد من خلال نقل بعض الاختصاصات، مثل بدلات إعالة الأطفال، وأنواع معينة من الرعاية الصحية من مستوى الاتحاد إلى المستوى الإقليمي. وهذا من مستويات الحكم الذاتي الذي لا يمكن للانفصاليين الكاتالونيين مجرد الحلم بتحقيقه.

غير أن التقسيم الكامل لبلجيكا لا معنى أو جدوى اقتصادية تُذكر من ورائه. فإن الدَّين العام للبلاد البالغ 106 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هو من أكبر مشكلات البلاد، ولا يستطيع إقليم والونيا الفرانكفوني بمفرده تحمل نصيبه العادل من هذا العبء الثقيل، ومن ثم فإن محاولة التقسيم سوف تسفر عن ارتفاع هائل في معدلات الاقتراض بالنسبة لسكان الإقليم الفلمنكي كذلك. 

وبالإضافة إلى ما تقدم، هناك مسألة بروكسل، وهي المدينة الدولية الكبيرة المتحدثة باللغة الفرنسية التي تعتبر جزءاً منفصلاً من الاتحاد البلجيكي، على الرغم من أنها محاطة بالأراضي الفلمنكية. وفي حالة الانقسام، من غير المرجح أن تكون بروكسل جزءاً من فلاندرز أو والونيا، وسوف تفقد جراء ذلك مدخلاتها الاقتصادية ومكانتها بصفتها مركزاً دولياً لكليهما.

لكن في سيناريو الاستقلال الكاتالوني، فإن مسألة تقسيم ديون إسبانيا، التي تمثل نسبة 99 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، سوف تكون من القضايا الكبرى كذلك. لكن القليلين اهتموا بتأثير ذلك على برشلونة، وهي المدينة الدولية الثرية والحيوية وذات الأهمية البالغة لكل من كاتالونيا وإسبانيا. 

وسوف تتأثر مكانتها بصفتها مركزاً دولياً كثيراً بسبب الانفصال. وعندما كنت في زيارة لبرشلونة الأسبوع الماضي، أخبرني روبن إينيكولوبوف، الخبير الاقتصادي الروسي لدى جامعة بومبيو فابرا في برشلونة، أن زملاءه يحسدونه علناً، حتى وإن كان من قبيل المزاح أحياناً، على خطته لقضاء المزيد من الوقت في موسكو العام المقبل. حتى عاصمة فلاديمير بوتين الكبيرة تعتبر من وجهة نظرهم ملاذاً آمناً مقارنة ببرشلونة التي تواجه شبح الانفصال الكاتالوني. وعمدة المدينة القوية، السيدة آدا كولاو، لم تكن تؤيد الانفصال لأنه سوف يغذي الاضطرابات الاجتماعية في الإقليم، ويسفر عن حالة ممتدة من عدم اليقين.

إن تقسيم البلد، أي بلد، يحمل أعباء حتمية على المواطنين، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في المدن الكبيرة التي تعتمد على السفر الدولي الخالي من الاحتكاكات، والتمويل العابر للحدود للمشروعات الثقافية والأكاديمية، والعلاقات الاقتصادية السلسة. لا بد للحركات الانفصالية أن يعلو صوتها وضجيجها إن أرادت النجاح في اللعبة الفيدرالية وانتقال السلطة، غير أن المواطنين العاديين يعلمون ويساورهم القلق حول التكاليف المحتملة، حتى وإن كانوا متعاطفين مع الخطاب الانفصالي. وفي فلاندرز، هناك نحو 40 في المائة من السكان صوتوا لصالح الأحزاب الانفصالية. 

وفي كاتالونيا واسكوتلندا، التي رفض السكان فيها الاستقلال في استفتاء عام 2014 لتجنب الأوجاع الاقتصادية الحتمية إلى حد كبير، تعكس استطلاعات الرأي المحلية المستوى نفسه تقريباً من تأييد الانفصال. وهذا يكفي لاعتبار المسألة والنظر فيها، بيد أنه غير كافٍ بحال للفوز في المعركة.

والسبب الأكبر في أن الحركات الانفصالية الداعية للاستقلال في كل من كاتالونيا وبلجيكا واسكوتلندا هي من الحركات غير العنيفة هو اعتراف السكان بالتكاليف الاقتصادية الحتمية ورفض تحمل أعبائها. وحتى أولئك الذين صوّتوا لصالح الانفصال لن يقدموا على القتال من أجل الاستقلال بسبب شعورهم العميق بأنهم لن يجنوا الكثير من ورائه – وبسبب أيضاً، كما هو الحال في البلدان الثرية مثل إسبانيا وبلجيكا والمملكة المتحدة، أن السكان يشعرون بأن لديهم بالفعل ما يخسرونه في هذه القضية.

من الخطأ اعتبار الخطاب الانفصالي بناءً على قيمته الاسمية فحسب، على الرغم من أن بعض أنواعه، مثل مزاعم بوتشيمون بقيادة حكومة إقليم كاتالونيا من المنفى، كما يشير عنوان موقعه الإلكتروني الجديد (president.exili.eu) – هي عديمة القيمة الحقيقية مقارنة بغيرها. إلا أنه يمكن أن يكون لها أثر إيجابي، رغم كل شيء، من خلال تغذية مشاعر اللامركزية، وهو الاتجاه الذي لا ينبغي أن يُضعف أوروبا أو حتى البلدان المكونة لكتلة الاتحاد. وبعد كل شيء، فإن الحكومة تكون في أقصى درجات الفاعلية عند اقترابها من الشعب المحكوم. وهي تستطيع المحافظة على مشاعر السعادة وزيادة الوعي بأن حياتهم جيدة للغاية ولا تحتاج إلى تغيير جذري لكي تكون أفضل.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»