محمد الرميحي
الحرب المقبلة و«القائمة» ليست تهديداً قادماً من الدول الكبرى على بعضها أو على الصغرى؛ فبعد انتشار الأسلحة الفتاكة لم تعد الحروب الكبرى التقليدية إلا من تاريخ الماضي. الحرب القائمة تقوم بها الدول الكبرى، والدول المارقة والقوى ما دون الدولة ورجال العصابات، بل من تجارة تسمى «الشبكة السوداء»، والعنوان الكبير لهذه الحرب القائمة، هو «الحرب الرقمية». لقد تحولت ساحة المعلومات إلى ساحة حروب. ويذهب كثيرون، بمن فيهم وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون السابق، إلى القول إن الحرب الرقمية هي ثالثة أثافي لكبرى الأخطار التي تهدد العالم بأسره، وهي الكوارث الطبيعية، والإرهاب والحرب الرقمية. يذهب آخرون إلى أن الثورة الرقمية سوف تشهد انقلاباً غير متخيل في السنوات العشر المقبلة؛ فهي سوف تشهد إنهاء عصر شركة «آبل» بكاملها؛ لأن الصينيين يجرّبون الآن تليفوناً جوالاً عصياً على المراقبة من الآخرين، وهو ما سوف يحول العالم بأسره إلى استخدامه وتصبح «آبل» من العصر القديم! لأن معظم الأجهزة الحالية يمكن متابعتها والتجسس على محتواها، بل ومعرفة تاريخ ومناطق تجول حاملها، ومع من يكون في لقاءاته الجادة، وحتى غيرها!
منذ أسابيع استضاف معهد الدراسات الدبلوماسية في الكويت بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة في محاضرة، فتحدث عن ثلاث قضايا؛ كوريا الشمالية، وهذا طبيعي كونه من كوريا الجنوبية، وتغيير المناخ العالمي، لكن أطول ما تحدث عنه هو مستقبل الذكاء الاصطناعي القائم «على الرقمنة». مما قاله عن الأخير أن «الروبوت» أو الإنسان الآلي القادم، وليس بأكثر من فترة عشر سنوات من الزمن، سوف يستطيع قراءة «أفكار» مُشغله! إذا كان السابق لا يدخل العقل لكثيرين اليوم، لنقم بدرس التقرير الأهم الذي أصدرته حكومة دبي منذ أسابيع، بعنوان «استشراف المستقبل»، الذي يتحدث عن سبع «مستقبليات»، في كل من الطاقة والصحة والتعليم والمياه والنقل والتقنية والفضاء، كل تلك المستقبليات تستخدم في تطورها القادم الثورة الرقمية. يقول التقرير، وأنا هنا أقدم بعض ملامحه: إن الطاقة سوف تتحول إلى طاقة شمسية وشبكات الكهرباء سوف تكون لا مركزية، وإن عصر السيارة الكهربائية على زاوية الشارع القريب من الاستخدام، وسوف يتحكم الإنسان في الطاقة النووية دون مخاطر. في الصحة في غضون أربع سنوات سيكون بالمقدور وبثمن بخس كشف احتمال أن يصاب الإنسان بأورام من أي نوع، من خلال اختبار بسيط للعاب! وفي الوقت نفسه تقريباً يمكن أن تُركب عين حيوية لإنسان يبصر بها، ثم إن التعديل الجيني والعلاج الجيني وبناء الأعضاء سوف يكون متاحاً للبشر، وسوف تساعد الهندسة الوراثية على إطالة عمر الإنسان من خلال وجود علاجات مرقمنة للتلف الذي يصيب جزءاً من جسم الإنسان! وقد لا يحتاج الإنسان إلى الذهاب للطبيب في عيادته، أو أن يأتيك إلى المنزل، فقط إنْ كان لديك جهاز تليفون ذكي أو جهاز كومبيوتر، تستطيع التواصل من خلاله فيشخص مرضك ويوصف لك العلاج. أما في التعليم وفرص الاطلاع على المعرفة الإنسانية، فإن بعض المستقبل موجود معنا اليوم، فالاتحاد الأوروبي يعمل على تشريع لائحة قانونية لإتاحة كل الأوراق العلمية والبحثية في جميع المجالات إلى أبناء البشر والتي تكلف اليوم لمن يريد الاطلاع عليها ملايين الدولارات، وسوف يكون في مقدور الطلاب في إطار تطوير التعليم، ومن خلال نظارات الواقع الافتراضي أن يشاهدوا تضاريس ألمانيا مثلاً والأستاذ يشرح لهم الدرس، أو المناطق الجبلية في الولايات المتحدة، أو غابات أميركا الجنوبية، كما سوف يصبح التعلم عن بعد هو السائد، دون حاجة إلى جدران وفصول ومدارس، وسوف تقام الدورات التدريبية من خلال الإنترنت، الذي ستزاد سرعته وتقل تكلفته ويكتمل تغطيته لخريطة العالم، وربما لن يكون هناك حاجة إلى معلمين؛ لأن الذكاء الاصطناعي سيستبدلهم خلال الـ 15 سنة المقبلة.
في النقل ومما جاء في التقرير، فإن الملكية الشخصية للسيارات سوف تصبح شيئاً من الماضي، والسيارة سوف تصبح ذات تحكم ذاتي لنقل شبه جماعي، وطائرات من دون طيار، وسوف تتوفر السيارة الطائرة إلى آخر المستجدات.
ليس من هدف المقال هنا نقل ملخص للتقرير؛ لأن ما فيه كثير، فقط لمحات مما جاء فيه، وهو متاح على الشبكة، إنما المقصود أن العالم سوف يعتمد في القريب على «الثورة السيبرانية» أو الرقمنة في معظم حياته ونشاطاته، التي سوف تأخذه إلى العصر الآخر، عصر قد يرى بعضنا اليوم أنه من الخيال. «السبرنة» أو الثورة الرقمية يتنافس اليوم على امتلاكها وتطويرها الدول والشركات الكبرى، كما يستثمر فيها بلايين الدولارات. وكأي شيء إيجابي يحمل أيضاً مضاره ومخاطره. فقد قيل الكثير عن التدخل الروسي الرقمي في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وما زال النقاش مستمراً يشكل عناوين الأخبار، حيث وجد على وجه اليقين أن هناك «جيشاً سيبرانياً» روسياً كان يقوم بتوزيع أو إعادة توزيع المعلومات والتعليقات الضارة بالمعسكر الآخر «الديمقراطي»، وما زال الأمر تحت التحقيق والمتابعة، كما ظهر أن هناك آلافاً من «بطاقات التهاني» في عيد ميلاد الرئيس فلاديمير بوتين أخيراً، ونقلت عن طريق النت، تبين حسب الإعلام الغربي، أنها من ذلك الجيش المبرمج؛ لأن عدد المهنئين على وسائل التواصل الاجتماعي تعني للعامة، مبلغ شعبية الرئيس! لكن المخاطر الأكبر على العصر الرقمي، أن أي فرد «وحده مع جهاز كومبيوتر»، ومع معلومات معقولة، يستطيع أن يحقق خسارة أو تلفاً لمنظومات حيوية تعتمد عليها الدول أو الشركات الكبرى، كما حدث لمنظومة العلاج الصحي البريطانية قبل أشهر، وهي مثال على تلك المخاطر؛ فقد تسبب التدخل الخارجي في المنظومة بتعطيل آلاف العمليات المستحقة للمرضى، وتغيير في وصفات العلاج، كما تسبب تدخل آخر بتعطيل آلاف الرحلات الجوية في أكبر مطار عالمي هو هيثرو البريطاني، بل بالإمكان التدخل عن بعد في أجهزة الطائرات وماكينات تشغيل المصانع، وآلاف المنشآت المختلفة الحكومية والخاصة، المدنية والعسكرية. بعض الدراسات تقول لنا إنه حتى في أجهزة الدفاع التي تشترى من طرف ثالث لجيش دفاع أحد البلدان، يمكن للشركة البائعة أن تدس «شريحة» صغيرة في المركبة أو الطائرة أو الصاروخ وتعطله عن بعد؛ حتى لا يستخدم في أغراض لا ترضى عنها الدولة المصنعة! بعض شركات تأجير السيارات اليوم تقوم ببرمجة سيارتها المؤجرة، حتى تمنعها من دخول منطقة بعينها، تعتبرها خطرة، أو لا توافق المؤجر على الوصول إليها أو تعبر الحدود! العام الماضي وبعد سلسلة هجمات على بعض المؤسسات البريطانية صرفت الحكومة نحو ملياري جنيه إسترليني فقط «لتقوية شبكات الحماية» للوقاية من مخاطر اختراق الشبكات الرقمية! كما أنشأت المركز الوطني للأمن السيبراني. وتشهد جيوش الدول المتقدمة إنشاء فيالق لما يعرف اليوم بالفيلق السيبري، بصفته جزءاً لا يتجزأ من قوة دفاعها، أي تلك المجموعة عالية التخصص والقدرة على متابعة وإفشال أي تدخل رقمي غير مرغوب فيه في الأجهزة الرسمية والتي تحمل أسرار الدولة. وأصبح معروفاً أن من الفيالق المتقدمة في هذا المضمار، فيلق كوريا الشمالية، وأيضاً إسرائيل وبلدان أخرى افتتحت مدارس وكليات من أجل الغرض نفسه، تحقيقاً لمقولة تاريخية أن أفضل طرق الدفاع هي الهجوم. كما أن الثورة الرقمية لم تعد معها الأسرار الشخصية محصنة، أو تاريخ الأشخاص والأشياء يمكن تزويرها، فبمجرد أن تضع خبراً عنك أو صورة أو أن تقوم بتعليق على النت فأنت سوف تبقى هناك إلى الأبد لأي شخص يريد أن يعرف شيئاً عنك، بل إن «فيسبوك» بين الفترة والأخرى تذكرك بما فعلت أو قلت قبل سنوات مضت! هذه الحرب تدخل فيها المنظمات الإرهابية، فهي تقوم بتشفير مراسلاتها، وتغير ذلك التشفير بين فترة وأخرى، وبخاصة في إرسال التعليمات وكسب المتطوعين. الحرب اليوم هي «حرب معلومات وحرب اختراق المعلومات» ولا تحتاج الدول أو المنظمات ما دون الدولة من أجل ذلك إلا إلى عقول وقرار، لكنها حرب قائمة.
آخر الكلام:
تفكيك شفرة التقدم والخلاص الوطني تعتمد في عصرنا على استخدام العلم، ومن يتجاوز تلك الحقيقة يعجز عن دخول المستقبل!
التعليقات