غسان الإمام

 يقول المثل الشعبي: «اسمع مجرِّب. ولا تستشر حكيماً». والحكماء الذين يديرون مراكز البحوث. والدراسات. والتعليقات السياسية في العالم العربي يبشروننا في الإذاعات. والتلفزيون، بأن السلام في سوريا أصبح جاهزاً، مع وصوله على متن «قطار الشرق السريع». لكن تأجل قليلاً، ريثما يتم العثور على رئيس حكومة لبنان المستقيل. كأن عودة سعد الحريري كافية لكي «تشيل الزير من البير».

مراكز البحوث والدراسات في العالم المتقدم تضم باحثين وخبراء متخصصين دائمي الزيارة لمناطق الأحداث. أما عندنا فالحكيم. هو مدير المركز. وهو الأعضاء. وهو الخبراء. وهو التسوية التي يخرجها من كمه. وهو الحل الوحيد الذي يحتفظ به في جيبه، وهو جالس في مقهى تلفزيوني يثرثر أمام جمهور مؤلَّف من 400 مليون عربي.
لكن الواقع في سوريا شيء. والتنظير في مقهى البحوث والدراسات شيء آخر. وإلاّ ماذا تعني سباحة ميليشيات أميركا وروسيا ضد التيار في نهر الفرات؟ هل الحل السلمي قادم مع تلك الميليشيات؟ مع القوات الإيرانية التي تزحف شمالاً بمحاذاة ضفة الفرات الشرقية، بعد احتلالها البوكمال؟ أو مع القوات الكردية المدعومة أميركياً المتحركة بمحاذاة ضفة النهر الغربية، لاستكمال السيطرة على محافظتي الرقة (العربية) والحسكة (الكردية)، حيث أقامت القوات الأميركية قاعدة عسكرية جوية شبيهة بقاعدة مطار حميميم التي أقامتها القوات الروسية في محافظة اللاذقية؟
هل السلام السوري ممكن في غيبة الهوية العربية؟ وفي غيبة الديمقراطية؟ هل أصبح السلام متوفراً، مع احتمال الصدام فوق الفرات بين مرتزقة روسيا وأميركا؟ أو مع إعلان إيران أنها تريد «تطهير» محافظة إدلب من «القاعدة». و«هيئة تحرير الشام». و«جبهة النصرة». وإخراج قوات البيشمركة من «عفرين»، بعد «تطهير» دير الزور. والبوكمال. والرقة. والحسكة من «داعش». والكرد. والأميركان؟
وهل تعود الحياة إلى ألوف المدنيين السوريين الذين يموتون، في القصف الجوي الروسي للقوات الكردية في محافظة الرقة؟ ويموتون أيضاً في القصف الجوي الأميركي للقوات الإيرانية. ومرتزقة «حزب الله». وفلول جيش بشار في البوكمال. ودير الزور؟ وهل تترك تركيا التي أُقطِعَت محافظة إدلب في الاتفاق الثلاثي بين روسيا. وتركيا. وإيران، للأخيرة. فتزحف بقواتها من حلب إلى إدلب؟ ذهب بوتين إلى طهران، لتذكيرها بالاتفاق المذكور. وإقناعها بعدم الذهاب إلى إدلب، كي لا ينفجر الوضع بين الشريكتين اللدودتين تركيا وإيران.
أريد أن أسأل حكماء الثرثرة وخبراءها عن السلام السوري في مقاهي البحوث والدراسات. ما الذي وجده هؤلاء «الحكواتية» في سوريا، ليخادعوا العرب والعالم، بأن السلام متاح وآتٍ مع الغارات اليومية الروسية والأميركية التي تمهد لإقامة «حدائق» مدنية آمنة؟!
حتى الرئيس اللبناني ميشال عون بات مقتنعاً بثرثرة مقاهي البحوث والدراسات عن السلام القريب في سوريا، بحيث طالب علناً بإعادة 1.5 مليون سوري نازح إلى لبنان، للإقامة «الآمنة» في سوريا، في ظل حكومة مصالحة ووئام بين نظام شرس. ومعارضة مهزومة. 
السياسي المسؤول ليس بالضرورة أن يكون مثقفاً. لكنّ رئيساً للجمهورية كعون. ورئيساً للحكومة كسعد الحريري، في بلد يعج بالمثقفين، مطلوب منهما أن يكونا مُلِمَّين بالتطورات السياسية والثقافية في عالم خطر محكوم بالفوضى. والعنف. وتجدد الاستقطاب بين روسيا والغرب. ويعرفان أن هناك صراع وجود ومصير بين شعبوية ترمب، والديمقراطية الليبرالية في أوروبا التي تدافع عنها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ولذلك، كان غريباً أن يدشن الرئيس عون زيارته الأخيرة لباريس بشكوى النازحين السوريين إلى فرنسا الحريصة دائماً على استقرار لبنان. كان الطلب اللبناني من فرنسا، بمساعدة نظام عون ورئيس حكومته الحريري بترحيل النازحين، مختلفاً مع ما فعلته فرنسا وتركيا. فقد منح عشرات ألوف النازحين والمهاجرين تراخيص مؤقتة للإقامة الشرعية في فرنسا. فعرفت الأجهزة الأمنية والمدنية أين يقيم هؤلاء. وماذا يفعلون. وباتوا هم يحرصون على أمن إقامتهم وأمن فرنسا. لذلك تراجعت نسبياً عمليات العنف الجماعي، فيما تزداد في بريطانيا التي لم تؤمّن المهاجرين إليها كما فعلت فرنسا.
وفعلت تركيا وألمانيا كما فعلت فرنسا. فقد استضافت تركيا ثلاثة ملايين نازح سوري. وسمحت لهم بالعمل. والتكلم والدراسة باللغة العربية. والتجنس بالجنسية التركية. واستضافت ألمانيا منذ عام 2015 مليون نازح سوري. ووفرت لهم مناهج لتعلم الألمانية. والتدريب المهني. والعمل كأرباب عمل وعمال في المصانع والشركات.
هل انتهى الدور السياسي لسعد الحريري؟ كم السياسة في لبنان شديدة الرياء والمخاتلة إلى حد الخداع! فالذين ولاّهم الحريري السلطة أمعنوا في إضعافه وإحراجه أمام العرب واللبنانيين، وبخاصة أن لبنان مقبل على انتخابات سوف تجري بنظامي القائمة والدائرة، بحيث يتحرر الناخب اللبناني من إغراء المال السياسي.
وصل التهديد الإيراني لحكومة الحريري، إلى مستوى إباحة دم رئيسها. «تنحنح» الحريري أخيراً. فاستقال تحت التهديد، إنقاذاً لنفسه من مصير أبيه المأساوي. فانقلب الذين هددوه، متظاهرين بالدفاع عنه. وذرفوا دموع التماسيح عليه وعلى الحكومة التي كانوا قبل الاستقالة بأيام قليلة يسعون لإسقاطها!
هل في «تيار المستقبل» بديل؟ إذا كان المرشح «حريرياً»، فلماذا لا يكون بثقافة. ووعي بهية الحريري شقيقة الحريري القتيل. وعمة الحريري المهدد بالقتل. فهي المرأة اللبنانية التي تقود سيارتها بنفسها والأكثر خبرة منه في السياسة. وهي الصامدة في صيدا أمام ميليشيا «حزب الله» المحتلة للمدينة السنّية. وإذا كان المرشح البديل «مستقبلياً» من خارج السرب والسلالة الحريرية، فلماذا لا يكون تمام سلام. أو أشرف ريفي. أو حتى وزير الداخلية نهاد المشنوق. مع اعتذاري لفؤاد السنيورة الصامد مع الرئيس عون ومزيكة «حزب الله»، ناسياً ما فعله الحزب الإيراني بحكومته التي كانت متمترسة بسراي الحكومة في ساحة الشهيد رياض الصلح.
كل حكومة. وكل سنة. ولبنان بخير.