إدريس لكريني

سمحت الأوضاع الدولية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وما تلاها من تساقط للأنظمة الشمولية في عدد من دول العالم في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، بالضغط على مجمل الأنظمة باتجاه إجراء إصلاحات سياسية تباينت أهميتها من دولة إلى أخرى.

وهكذا، أخذت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في العقود التي أعقبت هذه المرحلة بعداً عالمياً، حيث تزايد الاهتمام بهذه القضايا داخل الأوساط الدولية الرسمية منها وغير الرسمية، بعدما ظلّت حتى وقت قريب تعدّ شأناً سيادياً داخلياً. 

فعلى مستوى الممارسات الانفرادية لبعض الدول، أضحى توجيه المساعدات يخضع لمعايير احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما أصبحت الدول التي تصنف غير ديمقراطية ولا تحترم حقوق الإنسان تتعرض لعقوبات سياسية واقتصادية..

وانسجاماً مع مهامها المرتبطة بتحقيق السلم والأمن الدوليين، واعتباراً لتداعيات الأزمات الداخلية التي غالباً ما يخلفها الصراع على السلطة إقليمياً ودولياً، تزايد اهتمام الأمم المتحدة بهذا الموضوع بصورة كبيرة في العقود الثلاثة الأخيرة، فعلاوة على اللقاءات التي أشرفت عليها والاتفاقات الدولية التي أصدرتها في هذا الصدد، قام مجلس الأمن بإصدار مجموعة من القرارات بموجب الفصل السابع لأغراض مرتبطة بتثبيت الديمقراطية، كما هو الشأن بالنسبة لقراره رقم 940 الصادر سنة 1994 والذي أجاز من خلاله التدخل «الديمقراطي» في «هاييتي»، حيث سمح المجلس بموجب هذا القرار بإحداث قوات متعددة واتخاذ ما يلزم لأجل تيسير رحيل النظام العسكري وعودة الرئيس المنتخب والسلطات الحكومية الشرعية.

وهو ما أسهم في تحوّل عدد من الأنظمة الشمولية إلى ديمقراطيات واعدة بصور تنوعت بين السلمية أحياناً والعنف أحياناًَ أخرى في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، وواكب هذا التحوّل إسهامات فكرية وأكاديمية طرحت مجموعة من المداخل الداعمة لهذا التحوّل.

على امتداد خريطة المنطقة العربية، ساد نوع من الجمود في المشهد السياسي، وتراوحت الإصلاحات على قلّتها بين المد تارة والجزر تارة أخرى، الأمر الذي عرّض الكثير من هذه البلدان إلى هزّات وأزمات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة.
ظلّت المنطقة العربية في منأى عن التحولات السياسية التي طالت عدداً من الأقطار منذ مطلع التسعينات من القرن المنصرم، في غياب تصورات واضحة بصدد الدولة المرغوب فيها، أو ثقافة تدعم التغيير، وتفشي مظاهر الاستبداد والفساد، ووجود التباس على مستوى علاقة الدين بالدولة..

مع اندلاع الحراك في المنطقة، عاد موضوع الإصلاح وبناء دولة مدنية حاضنة لمختلف المكونات داخل المجتمعات العربية، إلى واجهة النقاشات العمومية، وتحيل الدولة المدنية إلى مجموعة من المؤشرات في ارتباط ذلك بتدبير التنوع المجتمعي بأبعاده الثقافية والدينية والسياسية بصورة بناءة وسليمة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ووجود مؤسسات مسؤولة وقوية، وقضاء مستقل.

وبغض النظر عن النقاشات التي تشير إلى إغفال الدولة البوليسية أو العسكرية من النقاش الخاص بالدولة المدنية على حساب التركيز على الدولة الدينية أو الثيوقراطية، فإن المفهوم يحيل في شموليته أيضاً إلى عدم الخلط بين السياسة والدين، وإلى ترسيخ قيم المواطنة باعتبارها عصب الديمقراطية، التي تتعايش عبرها الخصوصيات الحضارية والثقافية.. وما يتصل بها من مبادئ في علاقتها بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والحرية في مختلف تجلياتها والمشاركة السياسية، والمسؤولية الاجتماعية..
فشلت مجمل أنظمة المنطقة في بناء دول مدنية حديثة، قوامها القانون والمؤسسات، كما لم تنجح في تحقيق تنمية حقيقية تستحضر الإنسان كوسيلة وهدف، وهو ما أسهم في تفشي حالة من اليأس داخل المجتمع وفقدان الثقة في المؤسسات.

إن أسباب هذا الجمود الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى أحداث وهزّات سياسية واجتماعية خطيرة ارتكبت فيها مآس وخروقات طالت حقوق الإنسان، تبدو متعددة ومتباينة، وتفرض اتخاذ تدابير وإصلاحات مختلفة..

وفي هذا السياق، نظّم مركز تكامل للدراسات والأبحاث ومؤسسة «هانس سايدل» ندوة علمية حول: «آفاق الدولة المدنية في المغرب الكبير» بمدينة مراكش المغربية، شارك فيها عدد من الباحثين والخبراء من مختلف البلدان المغاربية، شكّلت فرصة لتقديم مجموعة من الأوراق العلمية التي رصدت الموضوع من زوايا مختلفة، حيث تمحورت المداخلات حول الجوانب الدستورية والفكرية والسياسية والمؤسساتية.

ورغم الإقرار بأهمية قيام الدولة المدنية، فإن النقاش احتدم حول مفهومها وعناصرها و«نمذجتها» ومصدر القانون فيها، كما حرص المتدخلون على مقاربة الدولة المدنية في إطار مقارن، كسبيل لإبراز أهم الاختلافات المطروحة. فيما ركز بعض المتدخلين على أهمية استعادة التفكير حول الدولة في المجال التداولي العربي بشكل عام، مؤكدين في ذلك على ضرورة إعطاء الأولوية لسؤال الدولة المدنية في المنطقة كسبيل لدعم مرتكزات الدولة، مع الاستمرار في النقاش البنّاء بصدد مفهوم هذه الدولة وطبيعتها.

كما أكّدت مجمل التدخلات أن اصطلاح الدولة المدنية لم يرق بعد إلى حدود المفهوم، وما زال يخضع لمحاولات جادّة على مستوى التحديد والتجريب، واعتبر آخرون أنه جاء لتعويض مفهوم «علمانية الدولة» أو «الدولة العلمانية» بالنظر للالتباسات والإشكالات التي يطرحها هذا الأخير.

نبّهت بعض التدخلات إلى الدور المهم الذي يمكن للمجتمع المدني وللمواطنين أن يستأثروا به على مستوى بناء صرح الدولة المدنية، الذي يظل رهينا بتجاوب النخبة السياسية، مع التّشديد على أن هذا البناء لا يمكن أن يتأتّى إلا مع ترسيخ وعي مجتمعي، بما يحيل إليه الأمر من مراكمة المكتسبات الثقافية في هذا الخصوص.

وقفت بعض الأوراق المقدمة على الصعوبات والتحديات التي تواجه قيام الدولة المدنية في أبعادها الثقافية والسياسة المؤسساتية وحتّى الاقتصادية.. بينما دعا آخرون إلى ضرورة وحتمية استكمال الدولة المنفصلة عن «الشخصنة» والمتحرّرة من العرق والقبيلة، والنازعة نحو القانون والمؤسسات والحيادية تجاه مواطنيها بغض النظر عن تصوراتهم وتوجهاتهم الثقافية والسياسية.. وبلورة تصورات توافقية تركّز على المشترك بين المستنيرين في التيارين العلماني والديني..