مروان المعشر
لم تؤدِ الثورات العربية التي بدأت في تونس قبل سبع سنوات إلى تحول سريع نحو الديمقراطية كما توقع الكثيرون. وباستثناء حالات قليلة، فإن هناك دول عربية تحاول إما إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو القيام بإصلاحات تجميلية وغير تشاركية مع المجتمع. واقع الحال اليوم أن الاحتجاجات الشعبية لم تشكل أدوات فاعلة بعد للانتقال إلى مرحلة بناء المؤسسات الراسخة، والتأسيس لمجتمعات تعددية مستقرة ومزدهرة.
وإذ لم تنجح هذه الثورات في معظم الأحيان في تغيير الوضع القائم، فإنها أطلقت عملية تحولية تاريخية في المنطقة كان لا بد لها من أن تبدأ. ولا شك في أن هذه العملية ستستغرق عقوداً من الزمن، وستقود إن أحسنت قيادتها إلى مجتمعات أكثر انفتاحا وإنتاجية مما هي عليه الحال الآن.
يعود ذلك إلى أن تطلعات الشعوب العربية نحو الحوكمة الرشيدة لم تضعف، وأن العقود الاجتماعية القديمة السائدة قد انتهت إلى غير رجعة. وقد تألفت هذه العقود الماضية من شقين شكلا الإطار الأوسع لأنظمة ريعية غير إنتاجية. كان مفاد الشق الأول أن الدولة مسؤولة عن تأمين الخدمات الصحية والتعليمية ودعم المواد الأساسية كالخبز والطاقة، إضافة إلى أنها المصدر الرئيسي للوظائف، مقابل أن يترك للدولة صنع القرار، وهو ما شكل الشق الثاني من هذا العقد الاجتماعي. وقد ساهم النفط مساهمة رئيسية في تغذية هذا النظام غير المنتج بالنسبة للدول المصدرة أو المستوردة للنفط على حد سواء.
ونجحت هذه العقود في تحقيق الاستقرار ما دامت نوعية الخدمات المقدمة من الدولة مقبولة لدى الناس. ومع تضخم أجهزة الدولة في العالم العربي واستفحال الأنظمة الريعية، لم تعد الحكومات العربية قادرة على تقديم النوعية نفسها من الخدمات أو الدعم، أو توفير مزيد من الوظائف الحكومية، بينما بقيت تصر على الشق الثاني من العقد وهو ترك صنع القرار للدولة. ولا عجب إذن إن لم تقبل كثير من الشعوب العربية بالمعادلة المستجدة، ووجدت نفسها في الشارع في نهاية المطاف.
ويشهد العالم العربي اليوم تطوراً جديداً سينعكس بالضرورة على الحياة السياسية والاقتصادية في كثير من دول المنطقة، ألا وهو انخفاض أسعار النفط بشكل قد يكون دائماً، وبالتالي نهاية الحقبة الريعية في المنطقة. فمن ناحية؛ لا تستطيع الدول المصدرة للنفط الاستمرار في نمط أنظمة الرفاهية لشعوبها، كما لا تستطيع الدول المستوردة للنفط الاستمرار في الاعتماد على المنح الخليجية أو على المستويات السابقة نفسها لحوالات العاملين منها في الدول النفطية، واستخدام هذه الأموال لإدامة أنظمة سياسية واقتصادية ريعية ذات إنتاجية ضعيفة.
نحتاج إلى قراءة هادئة إذن لما جرى ويجري في المنطقة إن أردنا استخلاص العبر المناسبة للانتقال إلى مستقبل أفضل. فالحل لا يكمن في إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 2011، وإلا نكون لم نتعلم شيئاً من الثورات العربية الأخيرة. ويبدو الحل بديهياً في ضرورة التوصل لعقود اجتماعية جديدة تحقق توازناً اقتصادياً واجتماعياً جديداً، بحيث تتم زيادة نسبة المشاركة في عملية صنع القرار بشكل تدريجي وممنهج، وبحيث يتم التحول التدريجي نحو أنظمة اقتصادية إنتاجية تعتمد الكفاءة وسيادة القانون على الجميع، بينما تضمن الدولة زيادة كفاءة الخدمات الصحية والتعليمية التي تؤهل القطاعات الأقل حظا كي يتيسر لها العمل في القطاع الخاص.
لكن الحديث عن هذه الوصفة يبدو أسهل بكثير من محاولة تطبيقها. فقد خلقت بعض الأنظمة الريعية طبقات سياسية واقتصادية مستفيدة من الوضع القائم، لا مصلحة لديها في تغييره. كما خلقت هذه الأنظمة طبقات بيروقراطية غير كفؤة لا ترغب أو تستطيع مساعدة الدولة على القيام بمثل هذه التحولات الضرورية. ولاحظ الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في الثلاثينات من القرن الماضي أن «الأزمة تتجلى تحديداً في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأمراض العرضية».
ولاعتبارات كثيرة؛ منها وجود طبقة وسطى فاعلة، ومعارضة إسلامية منفتحة، وتمكين متقدم للمرأة، ونقابات عمال مستقلة، وغير ذلك، تمكنت تونس وحدها في العالم العربي من الاتفاق على عقد اجتماعي جديد جاء ثمرة نقاشات معمقة بين مكونات المجتمع السياسية والثقافية والجندرية. وفي حين لا يزال أمام تونس كثير من التحديات الاقتصادية والأمنية؛ كما السياسية، فلا شك في أنها وضعت إطاراً يمكن الاهتداء به، ولو بعد وقت طويل، لأهمية هذه العقود الاجتماعية في التأسيس لمجتمعات تشعر فيها مكونات المجتمع كافة بأن حقوقها ونظم حياتها مكفولة، لا يتغول فيها مكون على الآخر.
كما يبدو جلياً أن تجربة الإصلاح الاقتصادي البحت في الدول العربية، الذي لم يرافقه إصلاح موازٍ للأنظمة السياسية وتوسيع قاعدة صنع القرار، قد أخفقت. تستطيع الدول العربية أن تزعم بأعلى صوتها أن الصين تمكنت من تحسين مستوى المعيشة لديها دون إصلاح سياسي، لكنها لا تستطيع أن تنكر أنها بدأت بالإصلاحات الاقتصادية في الوقت نفسه تقريباً التي شرعت بها الصين، ولا حاجة لمقارنة النتائج. واقع الحال أيضا أن الإصلاحات الاقتصادية التي تمت في الدول العربية من دون أن يرافقها بناء نظام من الفصل والتوازن، ومجالس تشريعية تراقب هذه العملية، أدت لاستشراء الفساد بشكل كبير.
كما أن الثورات العربية قد أحيت النقاش حول ماهية النظم التي من شأنها تحديد الأطر العامة للتشريعات التي يجب أن تحكم المجتمعات العربية، وفيما إذا توجب عليها أن تكون أطراً وضعية مدنية أم دينية. وفي حين تكاد تتفق معظم التنظيمات السياسية المختلفة في المنطقة على مصطلح الدولة المدنية، وتشير إلى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أول من وضع تشريعاً مدنياً من خلال «وثيقة المدينة»، إلا أن هناك اختلافات جوهرية على التفاصيل. مرة أخرى، وحدها تونس استطاعت أن تثبت إمكانية تعايش القوى الدينية والمدنية من خلال دستور وضعي يضمن احترام المكونات الدينية والمدنية كافة على حد سواء.
مما لا شك فيه أن الغطاء الحديدي الذي فرض بقوة الأمن على المجتمعات العربية؛ قد زال، وبزواله تكشفت التحديات الحقيقية التي تواجه دول المنطقة، وعلى رأسها النظم السلطوية السياسية. كما يبدو أن الطريق الوحيدة التي ستنجح في بناء استقرار طبيعي وازدهار حقيقي هي التي تمر عبر بناء مؤسسات حقيقية ونظم اقتصادية أكثر إدماجية وإنتاجية، وتعتمد على سيادة القانون والتشاركية في السلطة واحترام التعددية. وهي طريق ستكون بالضرورة شاقة ومؤلمة وطويلة.
- وزير الخارجية الأردني الأسبق
التعليقات