سمير عطا الله
كتب المفكر اللبناني الأميركي الراحل فؤاد عجمي مفنداً نظرية صمويل هنتنغتون في «صراع الحضارات» (عام 2000) أن «تركيا لن تضل الطريق وتدير ظهرها لأوروبا وتهرع وراء إغواء إمبراطوري في الميادين التي تم إحراقها وتدميرها في آسيا الوسطى. إن هنتنغتون، وبحسن قدر العدالة والعلمانية في ذلك البلد، يقول إنه ليس من المرجح العودة إلى طشقند بحثاً عن القواسم التركية. وما من رحلة إلى مثل ذلك الماضي الإمبراطوري. فقد قطع أتاتورك تلك الرابطة بعنف بالغ ودفع بلاده في اتجاه الغرب وتبنى حضارة أوروبا...».
كل ما حدث في تركيا منذ بداية هذا القرن، كان عكس ما حسم فيه عجمي وما توقعه هنتنغتون. انصرفت أنقرة عن الغرب وأدارت ظهرها له واتجهت نحو طشقند وباكو بحثاً عن الجذور التركية. وأحيت المشاعر الإمبراطورية وبنى إردوغان رموزها، وها نحن نراه يوماً في موسكو ويوماً في سوتشي.
أعتقد أنهم يخطئون أولئك الذين يستسهلون استخدام حرف «لن» في الصحافة أو في الأبحاث. والمشكلة مع جميع الذين ناقشوا مقال هنتنغتون الشهير حول «صراع الحضارات» أنهم اتخذوا جانب النفي الحاسم، بينما اتخذ جانب الاحتمال. وأقاموا دعواهم على ظواهر التجارب، بينما أنشأ نظريته على أعماق المكونات التي جعلته يتكهن بما أصبحنا نراه تفجرات طبيعية بين الشعوب وآيديولوجياتها ومعتقداتها الراسخة.
كان هنتنغتون قد بنى مطالعته التي نشرها في «فورين أفيرز» على عنوان مأخوذ من نص للمؤرخ اليهودي الشهير برنارد لويس. ولم يناقش المفكرون العرب النص المطروح أمامهم، بل نصاً وضعه مفكران يهوديان ونُشر في مجلة تمثل الفكر السياسي الأميركي في أرفع مصادره. وكان هم النقاش لعن الفكرة وليس البحث فيها. وأما فؤاد عجمي نفسه، فقد كان من كتاب «فورين أفيرز» المداومين، كما كان يمثل في كتاباته ومؤلفاته الفكر الغربي والسياسة الأميركية. غير أنه في هذا النقاش الذي دام سنوات طويلة، بنى، مثل سواه من العرب، على المسلّمات، أو المعطيات، التي أمامه، وليس على ما تحمل في طيها من متغيرات ممكنة.
يقول عجمي «إن هنتنغتون يرى أن الدول ستحارب من أجل الروابط والولاءات الحضارية، في حين أنها تتدافع بالمناكب من أجل حصصها في السوق، وتتعلم كيف تنافس في اقتصاد عالمي لا يرحم». ومن الواضح أنه كان متأثراً في تلك المرحلة بانهيار الشيوعية السوفياتية أمام ثقافة الاستهلاك، فيما كان فيلسوف الصراعات يقرأ فيما هو أبعد من ذلك وأعمق. أي أن الأتاتوركية مرحلة معرضة للزوال تماماً مثل الشيوعية، باعتبارهما من خارج التجذّر الاجتماعي الذي مضت عليه مئات السنين.
التعليقات