فهمي هويدي

مسلسل عجائب الزمان مستمر خارج حدودنا المحصنة ضد أمثال تلك «الخوارق». ذلك أننا وجدنا قاضيا يوقف أمر رئيس الدولة في الولايات المتحدة، مخالفا بذلك ما نعرف من أن كلام الرئيس لا يرد، ليس فقط لأنه رئيس الكلام لكنه أيضا عصير الحكمة والفلسفة، وفي عجيبة أخرى فوجئنا بانتفاضة المجتمع ورموزه لتحدي قرارات الرئيس من خلال جمع نحو ٣٠ مليون دولار خلال أيام معدودة لصالح الدفاع عن الحريات المدنية التي انتهكتها قراراته الأخيرة.

وحينما قال الرئيس إن على المهاجرين غير القانونيين أن يعودوا إلى بلدانهم التي جاءوا منها، فإن أمريكيا من سلالة الهنود الحمر، سخر منه وقال: حسنا إلى أين أنت عائد؟ في إشارة إلى أصول الرئيس الألمانية، وما يشاع عن أن جده دخل إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية. هذا الذي يحدث في أمريكا فصل آخر من فصول الانتفاضة التي عبرت عنها النخب والجماهير التي رفض نفر منها الاعتراف بشرعية الرئيس الجديد، وقال قائلهم أمام الملأ إنه لا يحترم الرئيس أو جماعته ولا أعوانه الذين شكلوا الحكومة أو هيمنوا على الكونجرس، فهؤلاء جميعا لا يمثلون أمريكا، ولكن المجتمع بتنويعاته وفئاته المختلفة هو الممثل الشرعي الوحيد لها.ما دعاني للعودة إلى الموضوع الذي سبق أن تطرقت إليه ثلاثة أمور هي:

< حكم القاضى الفيدرالي لمحكمة سياتل (ولاية واشنطن) ــ اسمه جيمس روبارت ــ الذي قضى بتعليق قرار الرئيس دونالد ترامب منع دخول مواطني ٧ دول عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة لمدة ٩٠ يوما على الأقل، وكان عدد آخر من القضاة قد تبنوا نفس الموقف، وسبقتهم إلى ذلك وزيرة العدل بالنيابة سالى بيتس التي أقالها الرئيس ترامب من وظيفتها. وكانت السيدة بيتس قد طلبت من المدعين العامين عدم تطبيق قرار الرئيس في رسالة شككت في قانونيته وأخلاقيته.

هذا الموقف للقضاء اعتبر «صفعة» لترامب، الذي لم يملك سوى الامتثال له، رغم وعده بالطعن فيه. وترتب على ذلك أن تم تجميد قرار الرئيس، وأعلنت الإدارة الأمريكية أن أبواب الولايات المتحدة عادت وفتحت أمام رعايا الدول السبع.

< إننا في مصر نعيش واقعا على النقيض مما جرى في الولايات المتحدة. ذلك أن القضاء الإداري بمختلف مراتبه أصدر سبعة أحكام أكدت مصرية جزيرتي تيران وصنافير وأبطلت الاتفاقية التي عقدت بهذا الخصوص، ورفضت الطعون التي قدمتها السلطة، ورغم أن الحكم السابع أصدرته المحكمة الإدارية العليا التي تشكل أعلى مراتب القضاء الإداري، واعتبر الحكم أن الاتفاقية في حكم المنعدمة، إلا أننا فوجئنا بأن الحكومة لم تأبه بحكم القضاء وأحالت الاتفاقية إلى مجلس النواب. ولم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر، لأن ما هو أسوأ أن رئيس مجلس النواب انضم إلى الحكومة في موقفها من الحكم، رغم أنه أستاذ في القانون. إذ أعلن في برنامج تليفزيوني أن المجلس صاحب الكلمة النهائية في الموضوع، متجاهلا في ذلك حكم الإدارية العليا، الذي يعد نهائيا وبمقتضاه أصبحت الاتفاقية منعدمة.

وهو ما فسر بحسبانه انحيازا إلى موقف الحكومة من جانب رئيس البرلمان، وإعلانا عن موقف مسبق قبل نظر الموضوع.

< الأمر الثالث الذي لا مفر من الاعتراف به يتمثل في تقدير مدى قوة المجتمع الأمريكي وعمق استقلال القضاء فيه، ولولا ابتذال كلمة الشامخ في بلادنا لقلت إنه نموذج لذلك الشموخ المنشود. وهو ما ينبغي أن ننحني له احتراما، رغم اختلافنا وسوء ظننا بالسياسة الخارجية الأمريكية. وإذا كان تسجيلنا لهذه الحقيقة واجبا فإن اعترافنا أوجب بأن عافية المجتمع وقوة مؤسساته تعد من ثمار الممارسة الديمقراطية التي نسمع عنها في خطب أهل الحكم في بلادنا، لكننا نراها عندهم شاخصة في الشوارع والميادين.