سليم نصار

بعد ابتزاز المصارف العالمية، وصلت يد القرصنة الأميركية إلى الجامعة التي أسستها في لبنان ولاية نيويورك سنة 1863 تحت اسم «الكلية البروتستانتية»، واختارت دانيال بلس أول رئيس لإدارتها. وجاء في الأخبار أخيراً أن إدارة الجامعة الأميركية في بيروت وافقت على دفع غرامة قدرها 700 ألف دولار.

والسبب، كما أعلن مكتب الادعاء الاتحادي، أن الجامعة أقرت بتدريب ممثلين عن راديو «النور» وتلفزيون «المنار». وهما مؤسستان إعلاميتان تدرجهما وزارة الخزانة الأميركية بوصفهما تابعتان لـ «حزب الله».

ويُستدَل من هذا الاستنتاج أن مجلس الأمناء في نيويورك قد أذعن للضغوط التي مورست عليه «من قبل طرف سري لم تعلن هويته». وهذا الطرف الذي حجبت هويته عن قصد هو بالتأكيد «اللوبي اليهودي» الطامع منذ الستينات في تحجيم دور الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن وصفها الرئيس جون كينيدي أمام البطريرك الماروني بولس المعوشي بأنها منارة متقدمة في الشرق الأوسط. وبما أن إسرائيل تريد الاستئثار بحظوة هذه المنارة، لذلك استولت على نصف المعونات والمساعدات المادية التي كانت مخصصة للجامعة الأميركية.

وواضح من نصّ بيان المدعي الاتحادي أنه يجهل طبيعة الظروف التي استخدمتها الجامعة لتقديم دعمها الثقافي إلى هاتين المؤسستين. وحقيقة الأمر أن «حزب الله»، في نظر دول الاتحاد الأوروبي، كان منفتحاً على الشرعية بدليل أن أوروبا انتقدت جناحه المقاتل وبرأت جناحه الثقافي - الاجتماعي. وهذا يعني أن الجامعة الأميركية قامت بعملية الدعم الثقافي قبل أن تعلن الولايات المتحدة تصنيف «حزب الله» حزباً إرهابياً.

وهناك إشارة واضحة تحدث عنها القائم بأعمال المدعي الاتحادي في مانهاتن (حيث ترتكز نواة الحركة الصهيونية)، وفيها يطالب الجامعة بأن تتخلى عن فلسفتها التعليمية ومعاييرها وممارساتها وفق النموذج الأميركي الليبرالي للتعليم العالي.

وترى الجامعة، وفقاً للبيان التوضيحي الذي أصدرته، أن خريجيها ملتزمون حرية التعبير والتفكير واحترام التنوّع ونزاهة الحوار.

هذه القيم في نظر جون كيم، القائم بأعمال المدعي الاتحادي في مانهاتن، لم تعد قائمة في برنامج الجامعة التي أرادها أن تخضع لـ «مكارثية فكرية» تجرِّد هذا الصرح التعليمي من الشعارات التي وضعها دانيال بلس ومن خلفه من رؤساء زرعوا بذور التعبير الحرّ وحق الاعتراض وأعمال المقاومة الوطنية المشروعة.

ومن تلك البذور نبتت الحركات والتيارات التي طورت منطقة الشرق الأوسط من خلال 65 جنسية امتدت تأثيراتها السياسية والعقائدية من إيران والعراق حتى الجزائر والمغرب... ومن تركيا حتى السودان ومصر وليبيا واليمن وفلسطين. ومن رحم هذه الجامعة تخرج باسم القوميين العرب، الطبيبان جورج حبش ووديع حداد. ومن الرحم ذاته تخرج طبيب العيون منصور أرملي، حامل شعار الشيوعية الأممية. وتنسحب تلك الذهنية المتنورة على آلاف الطلاب ممن ساهموا في الحكم أو في المعارضة من أمثال: القاضي عبدالرحمن الأرياني ومحسن العيني من اليمن... وأحمد الخطيب من الكويت... وحامد الجبوري وباسل قبيسي وسلام أحمد من العراق.

والقائمة تضيق بسجل الروّاد الذين فتحوا أسواق الأدب والتجارة والإعمار من أمثال: اميل بستاني وكامل عبدالرحمن وسعيد تقي الدين وحمد الفرحان وإبراهيم طوقان وسعيد خوري وزها حديد ونزيه طالب والدكتور إبراهيم السلطي والشيخ نجيب علم الدين وأنيس المقدسي والأخوين الدكتور نجيب ومنير أبو حيدر.

ومن المؤكد أن قائمة المجلين في كل الحقول تضيق بالصفحات المشرقة التي كتبها الآلاف ممن تفوقوا في اختصاصاتهم، والذين لا يسمح المجال بتعداد أسمائهم.

وما يهم الرأي العام المتابع لتفاصيل هذه القضية الشائكة، هو معيار التسوية الذي التزم به الفريقان. ذلك أن الجامعة اشترطت إلى جانب موافقتها على تسوية وزارة العدل الأميركية «أن تبقى ملتزمة تقديم أرقى وأفضل تعليم للطلاب في لبنان وخارجه». وأكدت أيضاً التزامها الوفاء لمهتمها من خلال تعليم مجتمع متنوع، من دون تفريق على أساس العرق أو الدين أو العقيدة أو أي تمييز آخر. واختتمت دورها بعد تثمين الدعم السخي الذي تقدمه «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، بقبول إجراء تدريب إضافي لأعضاء هيئة التدريس لضمان الامتثال للقانون الأميركي واللبناني!

وكلمة «امتثال» تعني أن حرية التعبير والتفكير التي قدمتها الجامعة الأميركية في بيروت على امتداد مئة وخمسن سنة، ستتعرض لتوجيهات صارمة بواسطة قيود معنوية تمنعها من تحقيق دورها السابق. وهذا يعني أن الإرهاب الفكري الذي قدمه مكتب الادعاء الاتحادي الأميركي كعلاج ضروري لاستمرار رسالة هذا الصرح الثقافي... سيتحول إلى حملة اضطهاد يمكن أن تنسف كل مقومات نظام التعليم السابق. وفي ظل هذا التوافق، تصبح الجامعة الأميركية في بيروت واحدة من عشرات الجامعات التي سمحت الدولة بتأسيسها.

وفي المرحلة الأخيرة أصابت سهام القرصنة الأميركية عدة مصارف عربية كان «البنك العربي» في قائمة المتضررين. و «البنك العربي» أنشئ على يد مؤسسه عبدالحميد شومان مع أربعة مساهمين في تموز (يوليو) 1930، في القدس. أي قبل نحو عشر سنوات من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقبل 18 سنة من إعلان إنشاء دولة إسرائيل.

وبما أن فلسطينيي الـ «دياسبورا» كانوا يستخدمون فرع نيويورك كأداة تواصل لإرسال المساعدات إلى ذويهم في الضفة الغربية بعد احتلال 1967، لذلك حرصت أجهزة «الموساد» على مصادرة كل الملفات المتضمنة قوائم الزبائن في الداخل والخارج. واستغلت «الموساد» تلك القوائم بغرض الانتقام من العائلات التي تقدم بعض الشهداء، علماً أنه ليس للبنك فيها أي ناقة أو جمل.

وبناء على افتراضات خيالية أنزِل العقاب بـ «البنك العربي»، بحيث غُرِّمت الإدارة الجديدة التي اشترت من عبدالحميد شومان كل الحصص المعروضة، وغرّمتها محكمة نيويورك مبلغ 23 مليون دولار كدفعة أولى. واضطرت الإدارة الجديدة برئاسة صبيح المصري إلى الحصول على شهادات قانونية من الإدارة الأميركية في واشنطن، ومن الحكومة الأردنية في عمّان، بأن «البنك العربي» لا يموّل المقاتلين ولا يفتح حسابات لأعضاء المنظمات الفلسطينية المعارضة.

ومع هذا كله، لم تأخذ محكمة نيويورك بشرعية هذه الشهادات، الأمر الذي اضطرها إلى القبول بمبدأ التسوية. ولكنها تسوية مجحفة كونها امتدت لمسافة زمنية طويلة جداً كان «البنك العربي» يدفع خلالها أجور المحامين والخبراء. وقد تكدست المصاريف على نحو غير مألوف.

في إطار الحملة الدولية على الإرهاب، لا تزال الإدارة الأميركية تتصرف وفق السياسة التي سادت في عهد جورج بوش الابن. أي السياسة الانتقامية التي مورست بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، وموت ثلاثة آلاف نسمة.

يجمع المراقبون والمعلقون على القول إن قرار اجتياح العراق لم يكن مرتبطاً بحادث إزالة البرجَيْن وإحراق جناح في البنتاغون. ذلك أن المحافظين الجدد في حينه، تبنوا هذا الخيار قبل أن يحققه بوش ونائبه ديك تشيني. وكان ذلك تحت عنوان «الحرب الاستباقية والضربة الاحترازية». وهي سياسة مخالفة للقانون الدولي بسبب افتقارها إلى أدلة ثبوتية تسمح بالدفاع عن النفس. أو تسمح بتدمير بلد مثل العراق عام 2003 استناداً إلى معلومات قديمة مستقاة من عملية تدمير المفاعل النووي قرب بغداد في 7 حزيران (يونيو) 1981.

ومن أجل إثبات سوء النية المبيتة لدى واشنطن، لا بد من مراجعة حكاية خوسيه بستاني، أول مدير عام للوكالة الدولية للطاقة النووية (مركزها فيينا).

وقد اختير هذا المحامي البرازيلي (والده لبناني الأصل من أنسباء الجنرال إميل بستاني) لهذا المنصب الحساس عام 1997.

بعد مرور خمس سنوات، اختلف خوسيه مع إدارة بوش الابن لأنه قدم تقريراً موثقاً يجزم فيه أن عراق صدام حسين لا يملك سلاحاً نووياً.

عقب نشر التقرير، شن شيوخ الحزب الجمهوري حملة شعواء ضد مدير الوكالة، انتهت باتفاق الرئيس الأميركي مع صديقة توني بلير، رئيس حكومة العمال البريطانية، على إزاحته من منصبه. وهذا ما حصل بالفعل، قبل اختيار محمد البرادعي ليحل مكانه في المنصب.

وبما أن خوسيه بستاني ينتمي إلى حزب العمال الذي يرأسه لولا دي سيلفا، فقد انتصر له وكافأه بتعيينه سفيراً لدى بلاط سانت جيمس.

وفي جلسة التعارف، سألته عن لقائه بتوني بلير رئيس الحكومة الذي ساهم في طرده من الوكالة. وهز رأسه عدة مرات، قبل أن يعلق بلهجة تنمّ عن إحراج عميق، ويقول: لقد توسلت الرئيس لولا أن يعينني سفيراً في أي عاصمة أخرى غير لندن. وكنت مدركاً لحجم التحدي الذي سيثيره وجودي الديبلوماسي لدى حكومة تآمرت على طردي من وظيفتي.

وكان رد الرئيس البرازيلي قاطعاً، إذ قال: إذا اعتبرتك لندن شخصاً غير مرغوب فيه، فأنا لن أكون نادماً إذا بقي منصب سفيرنا شاغراً.

ولما سألته عن سبب اعتراض بوش وبلير على تقريره، قال: إن المعلومات التي قدمتها لا تبرر الضربة العسكرية التي كانت تعدّ لها الولايات المتحدة مع بريطانيا. والدليل أن بلير أرسل 29 رسالة إلى بوش في صيف 2002 يمهد فيها لتعاونهما حول الهجوم العسكري على العراق الذي تم تنفيذه عام 2003.

ويُستفاد من التحقيق الذي أجراه البريطاني السير جون تشيلكوت أن الدولتين تآمرتا على وضع خطة وهمية ساهم في إعلانها وزير الخارجية كولن باول، ولم يجد المحقق، بعد طول عناء، أي سبب شرعي يبرر افتعال الهجوم على العراق.

وبسبب الغباء الذي غلف تدابير الوكيل الأميركي بول بريمر، رئيس الإدارة المدنية في العراق بعد الغزو، فقد ارتكب الخطأ السياسي الكبير عندما أمر بحلّ الجيش النظامي، وصرف أكثر من مليون جندي من الخدمة.

وكان من نتيجة ذلك القرار التعسفي المرتجل أن اتحد الضباط والجنود المسرّحون، ليؤلفوا قوة متمردة لم تلبث أن أعلنت من الموصل ولادة «داعش»!