أمير طاهري
مع انطلاق المواطنين الفرنسيين يوم الأحد المقبل إلى صناديق الاقتراع لاختيار رئيسهم الجديد، فإن أوروبا وما وراءها من العالم المعاصر، سوف يشهدون تلك الأحداث بقلوب وجلة.
فمن شأن الانتصار المشوش من جانب مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان أن يلقي بظلال من الشك على مستقبل الاتحاد الأوروبي، في وقت لا تزال أوروبا تحاول امتصاص صدمة الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد. ومع اعتبار علاقات السيدة لوبان مع موسكو، فإن هذا التحول الخطير في الأحداث من شأنه أن يسبب اهتزازات كبيرة في حلف شمال الأطلسي، في الوقت الذي تمارس روسيا فيه الضغوط الشديدة على الأطراف الخارجية لدول الحلف.
باقي من الزمن 48 ساعة على يوم الانتخابات الرئاسية الفرنسية، ومن شأن الحكمة التقليدية أن تجعلنا نعتقد أن فوز مارين لوبان هو من الاحتمالات البعيدة وأن إيمانويل ماكرون، نجم الأحداث المفاجئة في هذا الموسم الانتخابي، سوف يمضي في طريقه نحو بوابة قصر الإليزيه.
مع ذلك، حتى وإن تحققت هذه النسخة المتفائلة للغاية من الأحداث، فينبغي علينا اعتبار هذه الانتخابات كمثل الإنذار الصارم بالنسبة للديمقراطية الفرنسية. فهذه هي المرة الأولى التي جمعت فيها النهايات المتطرفة للنخبة السياسية الفرنسية نصف أصوات الناخبين تقريباً خلال الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد. وفي عام 1969، حاز جاك دوكلوه، حامل لواء الحزب الشيوعي الفرنسي، ما يقرب من ربع أصوات الناخبين. وهذه المرة، حاز كل من مارين لوبان، ونيكولا دوبون اغينان، وفرنسوا أسيلينو، حاملي لواء اليمين المتطرف الفرنسي، ما يقرب من 27 في المائة من أصوات الناخبين.
وأضف إلى ذلك 23 في المائة التي فاز بها مرشحو اليسار المتطرف جان لوك ميلانشون، وناتالي أرتود التروتسكية، وفيليب بوتوه من الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، ولسوف تجد لديك ما يقرب من نصف عدد الناخبين الفرنسيين.
وإجمالاً للقول، فإن أصوات كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف تشير إلى رفض الحالة الراهنة بشخصيتها المعنوية وقواعدها المتنازع عليها بشكل متزايد. ويبدو أن حالة الرفض هي أوسع من ذلك بكثير، إذا افترضنا أن هناك جانباً جيداً من القاعدة الانتخابية للسيد ماكرون يرفضون الحالة الفرنسية الراهنة من خلال اختيار ذلك السياسي الوافد الجديد نسبياً إلى السياسة الفرنسية. وسوف يكون هناك المزيد من القلق إذا ما تذكرنا أن فرنسوا فيون، الزعيم غير الناجح لليمين الكلاسيكي الذي انتهى به الأمر محققا 18 في المائة فقط من عدد الأصوات، كان قد اقتبس أيضاً بعضاً من تيمات الرفض الفرنسي الشهيرة عبر تبنيه الغريب للموقف المؤيد لروسيا في ملفات السياسة الخارجية.
ويميل بعض المحللين إلى رفض كل ذلك باعتباره ثوراناً لأصوات الناخبين المحتجين، أو كمثل عاصفة رعد عابرة في يوم صيف هادئ. ومع ذلك، حتى وإن كانت هذه هي الحالة في أي ديمقراطية حقيقية فإن التصويت الاحتجاجي هو تصويت قانوني كأي تصويت آخر. وإحدى وظائف الانتخابات هي أن تعكس حالة الاستياء لدى الجماهير، سواء أكان لها ما يبررها من عدمه، حيال الحالة الراهنة.
ويشير المحللون الآخرون إلى حقيقة مفادها أن أغلب الناخبين «المتطرفين»، على غرار أولئك الذين حققوا الانتصار في معركة البريكست البريطاني، هم من الطبقة الأقل تعليماً، والأقل علماً ببواطن الأمور، والأقل ثراء كذلك، وهم «الأقل» في مجالات أخرى كثيرة. وبرغم ذلك، فإن التصويت من الطبقة «الأقل» في المجتمع يُحسب مثل التصويت من الطبقة «الأكثر» في المجتمع نفسه.
ومهما كانت نتيجة التصويت يوم الأحد، فهناك 3 دروس على الأقل يمكن استخلاصها من السباق الرئاسي الفرنسي لهذا العام:
الدرس الأول، يتعلق بالأحزاب الرئيسية، والاشتراكيين، والديغوليين من مختلف المسميات، والذين فشلوا في إقناع الناخبين بأنهم يمكنهم وبشكل فعال معالجة مخاوفهم، المبررة منها وغير المبررة. وانتهى الأمر بهم جميعاً إلى حيازة أقل من ربع الأصوات، وهو أدنى مستوى نجحوا في تسجيله على الإطلاق. ويعتقد بعض المحللين أن الحزب الاشتراكي أو حتى بعض من الديغوليين كذلك، سوف تتلاشى ذكراهم في غياهب النسيان. ولكنني لا أعتقد أن ذلك سوف يحدث. فإنهم يمثلون الآيديولوجيتين اللتين، برغم التباينات المختلفة، قد هيمنتا على المجال السياسي الأوروبي عبر القرنين الماضيين.
والدرس الثاني، هو أن الطرفين المتطرفين من الطيف السياسي الفرنسي، ورغم وقوعهما في قبضة الآيديولوجيات الضيقة العقيمة، فهما غير قادرين على التوسع بخيالاتهما لما وراء حدود معينة، وبالتالي فمن غير المتوقع لهما النجاح في تصحيح الأخطاء التي سلطا الأضواء عليها من قبل.
فاليمين الفرنسي المتطرف الذي تمثله السيدة لوبان هو الوجه الحالي الذي لم يكن أبداً قادراً على النمو خارج حدود السياسات الفرنسية. ومن خلال تجلياته المختلفة، بما في ذلك حركة العمل الفرنسية، أو الحركة الجزائرية الفرنسية، أو منظمة الجيش السري، أو حتى الحركات المستنسخة من أنصار جورج بوولنغر أو بيير بوجاد، لم تفلح في التحول إلى الآيديولوجيات السياسية السائدة. ويمكن القول إن نسخة من اليمين المتطرف قد صيغت على نحو وجيز في شكل حكومة المارشال فيليب بيتان في ظل حكم الاحتلال الألماني في الفترة بين عامي 1940 و1944.
أما بالنسبة لليسار المتطرف وعلى مدى عقود، فإنه يدين بجزء من سلطاته إلى الدعم القوي من جانب الاتحاد السوفياتي. وحتى الجماعات اليسارية الهامشية مثل حركة العمل المباشر وغير ذلك من التنظيمات الإرهابية من تيار اليسار كانت قد تلقت التغذية الآيديولوجية، إن لم تكن المادية، رأساً من موسكو.
ولا يمكن مجرد شطب اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف من الحياة السياسية الفرنسية، وفي هذه المرة على أدنى تقدير، يمكنها لعب دور مفيد من خلال دق ناقوس الخطر بشأن حالات الفشل المتكررة، ونقاط الضعف، ومواطن النقص الهيكلية في التجربة الديمقراطية الفرنسية في شكلها الحالي.
والدرس الثالث والأخير، كما يأمل البعض، يكمن في أن تنشأ الديمقراطية الفرنسية من رحم الاضطرابات الحالية أقوى وأصلب مما كانت عليه في الفترة السابقة. وهذا ليس من قبيل تفاخرات نيتشه الوجودية. فإن التجربة الراهنة تظهر أن النظام الديمقراطي يمكن أن يشتمل على أكثر الجماعات والحركات تطرفاً عند مرحلة الترحيب بهم على عتبات السلطة وليس لأبعد من ذلك.
إن انفجارات التطرف السياسي الفرنسي، من اليمين الكاره لوجود الأجانب وحتى اليسار القومي الشعبوي، لم تعد مقتصرة على المجال الفرنسي فحسب، بل تمددت لتشكل تحدياً قوياً وقائماً في مواجهة الديمقراطية الأوروبية بأسرها. وفي كل مكان في أوروبا، كانت الديمقراطية الأوروبية قادرة على احتواء تلك الظواهر السياسية المتطرفة، بل وفي بعض الأحيان تمكنت من توجيه طاقاتها في خدمة الإصلاحات المتأخرة.
ففي اليونان، بدأ حزب سيريزا اليساري المتطرف مساره كبطل في مواجهة الاتحاد الأوروبي القوي. ولقد صار الآن حاملاً للواء المعايير المحلية للاتحاد الأوروبي. وفي إسبانيا، طرق حزب بوديموس الحدود الخارجية للتطرف السياسي وهو في طريقه الآن لأن يتحول إلى حزب يساري من أحزاب التيار السائد. وفي النمسا، وصل المرشح الرئاسي لتيار اليمين المتطرف إلى الجولة الأخيرة من الانتخابات، ولكن أطاح به في نهاية المطاف مرشح آخر يعود بتوجهاته السياسية إلى حزب الخضر. وفي هولندا، يبدو أن حزب خيرت فيلدرز اليميني المتطرف قد أدرك أخيراً أقصى حدود إمكاناته الانتخابية، وهي التجربة التي يبدو من المرجح تكرارها في كل من السويد والدنمارك كذلك. وفي إيطاليا أيضاً، تمكن النظام السياسي من استيعاب صدمة الرفض السياسي المتطرف تحت زعامة الكوميديان بيبي غريللو.
وفي كل تلك البلدان الأوروبية، تمكنت أطراف التيارات السياسية المتطرفة من تعكير صفو الأجواء، غير أنها فشلت في إحداث ثورات حقيقية. دعونا ننتظر ونرى ما سوف تسفر عنه الأحداث في فرنسا بعد غد.. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
التعليقات