عادل درويش

راجعت بتدقيق مجادلات على مواقع التواصل الاجتماعي، معظمها عما يحدث في مصر، فتسرعت بتفسيرها بقول سمعته في الخمسينات «الفاضي يعمل قاضي»، أي من لا شاغل له بمشكلات مهمة يتفرغ لأمور تافهة أو يقضي الوقت في مراقبة الآخرين لوضعهم أمام محكمة عقله لإصدار الأحكام.
لكني تراجعت عن الفكرة بسبب الضجة الهائلة الدائرة حول قضايا لا أذكر أنها احتلت اهتماماً يذكر في الخمسينات قبل مغادرتي مصر، أو في نهاية السبعينات أثناء عملي مراسلاً أجنبياً... جدل امتد إلى وسائل التواصل الاجتماعي من دائرة انتشاره في وسائل الصحافة القومية مقروءة وتلفزيونية، أطرافه الصحافيون والمثقفون والساسة.
فتاوى تصدر عن جهات وأفراد لا أعتقد (من دراستي ما فوق الشهادات العليا للتاريخ الإسلامي) بصلاحيتها، لافتقارها للمؤهلات العلمية والفقهية، لإصدار الفتوى، وقرارات التكفير، أكرر فتاوى تقضي بتكفير، أي بإخراج الشخص المستهدف من دائرة الإيمان (ويعلم الله من فوضهم لاستصدار الأحكام نيابة عن الدين أو نيابة عن الذات الإلهية؟).
ومن البديهي (أي أمر لا يحتاج لتفكير عميق أو دراسة معقدة أو نظريات علمية أو فلسفية) أن مسألة إيمان الفرد هي خيار ذاتي، لا يخضع غالباً للتحليل العملي والفلسفي، بل لغريزة أو إحساس وجداني يصعب وضعه في مختبر علمي، أي مسألة في قلب أو وجدان لا عقل الإنسان. هذه الملحوظة البديهية فتحت باب الشك في صحة انطباق القول «الفاضي يعمل قاضي»، على انشغال المجتمع (صحافة، مثقفين، أفرادا، مؤسسات، وأجهزة دولة وأساتذة في الأزهر والجامعات المدنية) بالحوار والجدل في أمر كان يجب أن ينحصر، منطقياً، في شكل حوار أقلية محدودة تهتم بالأمر لأسباب شخصية أو مهنية أو أكاديمية. حوار حول اتهام افتراضي من فرد أو أفراد تجاه الآخرين أو شرائح من المجتمع، عبر فتوى «بتكفيرهم».
ليس من المقبول منطقياً أن يكون مجتمع مزدحم في العمران (كل مدينة مصرية يفوق تعدادها دولاً بأكملها) ليس لديه مشكلات عملية من إسكان ومواصلات، وافتقار خدمات الصحة وارتفاع سعر السلع الأساسية والطاقة، بحيث يجد الوقت ليصبح «قاضياً» للفصل فيما كان حتى عهد قريب محصوراً في الفصول الدراسية في مناهج الفلسفة أو المنطق.
ربما التفسير الأقرب للواقع هو ما اختبرته عن قرب جغرافي هنا في بريطانيا، وينسحب أيضاً على الحالة المصرية وهو group - think أي «حصر طريقة تفكير المجموعة في إطار مغلق».
ويمكن تلخيص معالجة مشكلة من منظور ضيق بالقول إن «الجراح يعالج المشكلة ببترها من الجسم، والحداد بضربها بمطرقته، والترزي بتفصيل سترة تغطيها». ، ويدرك القارئ ما أعنيه؛ وربما لا يفاجأ بأن الظاهرة موجودة أيضاً في المؤسسة الصحافية البريطانية والغربية عموماً. لكنها تنحصر في الصحافة ولا تنتشر في المجتمع الديمقراطي الليبرالي الغربي على المستوى القومي كما هو الحال في مصر مثلاً. فالمجتمعات المتطورة (العلمانية الليبرالية حيث الفرد ديمقراطي بالنشأة) هي مجتمعات منفتحة لا تنغلق على نفسها في أسر سجن ذهني من صنع الفرد قبل الجماعة. فالإحباط أو الكبت الذهني يبدأ في رأس الفرد في شكل أغلال عقلية تمنعه من الإبداع والخيال وانطلاق التفكير (أغلال) كـ«عيب» أو «حرام دينياً» أو «سيهزأ الناس مني»؛ أغلال تغيب عن المجتمعات الليبرالية بسبب تطور التعليم واستقلالية الفرد واعتماده على الذات منذ سنوات الطفولة الأولى.
خذ مثلاً الصحافة والشبكات التلفزيونية الليبرالية اليسارية الأميركية، وهي الأشهر لدى قرائنا، والأكثر تأثيراً في أميركا، بينما المحافظة واليمينية هي صحافة الأقاليم في ولايات ومدن غرب الوسط والجنوب الجغرافي؛ تجد اتجاهات التحرير في الأولى أسيرة ذهنية تفكير جماعي بين التيار الليبرالي ينعكس في هوس البحث عما هو سلبي عن الرئيس دونالد ترمب وتضخيمه. وبخلاف اتهامات الرئيس ترمب ومعسكره، فالأمر ليس مؤامرة مقصودة (منشآت صحافية تعتمد اقتصادياً على زيادة التوزيع ومضاعفة أعداد المشاهدين عبر الانفراد بالخبر ستضرب مصالحتها الاقتصادية في مقتل، إذا نسقت أو اتفقت أو تآمرت مع منشآت صحافية منافسة) بقدر ما هو هوس التفكير الجماعي. الهوس نفسه (المرتبط أيضاً بالبحث عما يحرج الرئيس ترمب) بشيطنة صورة الرئيس فلاديمير بوتين والتهويل من الخطر الروسي، أي طريقة التفكير الجماعي وليس مؤامرة مقصودة. والتيار يسير بعكس المنطق الحرفي الصحافي وحتى المنطق الاقتصادي في تغطية الأخبار والأحداث التي تهم الناس. فالخطر الأكبر الذي يواجه المجتمع الأميركي اليوم، خارجياً هو كوريا الشمالية وتطويرها صواريخ تحمل رأساً نووياً يصل أميركا، ثم المنافسة الاقتصادية من الصين، وتهديد الجماعات الإرهابية كـ«داعش» (ومواجهتها تحتاج التنسيق مع روسيا لا شيطنتها). وداخلياً تواجه المجتمعات الأميركية تحديات في ارتفاع البطالة، والمواجهات العنصرية خصوصاً بين السود والبوليس، وانتشار المخدرات، لكن الأولوية تعطيها الصحافة الأميركية اليوم للبحث (افتراضاً لا بأدلة تقنع قضاة محكمة) عن افتراضية تعاون معسكر ترمب مع «العدو» الروسي أثناء الحملة الانتخابية. والمؤسسة الصحافية بدورها تشكل الضغط على المؤسسات الأخرى، فمثلاً ينفق مكتب التحقيقات الفيدرالي الجهد والوقت والمال بشكل غير مسبوق في البحث عن «أدلة» لإثبات فرضية تعاون ترمب مع الروس؛ بينما مثلاً لا يوجه أية جهود تذكر للبحث عن الأسباب وراء حادثة حقيقية هي مقتل السفير كريس ستيفنسن في ليبيا أثناء تولي هيلاري كلينتون وزارة الخارجية، ومحوها رسائل إلكترونية متعلقة بالأمر. ولأن الجماعة الإرهابية التي أحرقت السفارة وقتلت السفير كانت على اتصال وتنسيق مع وكالة المخابرات المركزية، فالتحقيق في الأمر يعتبر بالغ الأهمية للأمن القومي لمعرفة مسؤولية الوكالة، وأيضاً مدى عمق أو تغلغل علاقة هذه الجماعات بالعاملين في، أو المتعاقدين للتعامل مع، وكالة الـ«سي آي إيه». أمر أكثر حساسية وخطورة على الأمن القومي الأميركي من فرضية وجود علاقة بين بعض المقربين من الرئيس ترمب وبين الدبلوماسيين الروس التي يركز عليها مكتب التحقيقات الفيدرالي، ويتجاهل الواقعة الفعلية في ليبيا التي نسيتها الصحافة بسبب انحصارها في إطار تفكير الجماعة.
ورغم امتداد ظاهرة حصر تناول الأحداث والتفاعلات الاجتماعية في إطار تفكير الجماعة، فإن الفارق الذي ذكرناه هو بقاء الظاهرة في إطار مؤسسة الصحافة في المجتمع المنفتح، بينما تسيطر، كهوس أو هستيريا جماعية على البلد كله في المجتمع المنغلق على نفسه.. . . . . . .