تركي التركي

"الصرامة" التي لا ينكرها السديري في أحاديثه عن أسلوبه وعمله، بل يشدد على ضرورتها لكل عمل ناجح، ولكن مع كثير من الرحمة - هي وصفة قل أن يجيدها كثير من الرؤساء والمسؤولين، فضلا عن الكُتّاب والمثقفين، فالحاصل مع الكثير اليوم إما صرامة تنفّر وإما رحمة تفرّط. في حين كان عميد الصحافة وأمينها يقابل المحبة بالوفاء، والبغض بمزيد من العمل ليحيا نبيلا ويموت نبيلا. 
عشق الصحافة وراسلها بشغف طفلا صغيرا، وأحبته راشدا مزاولا المهنة باستمتاع وإخلاص، لتتوجه لاحقا رئيسا لكبرى اتحاداتها وهيئاتها المحلية والخليجية والعربية. إنه الراحل عن بلاط الصحافة جسدا، والساكن في ذاكرتها الوطنية تأسيسا وعطاء لا ينضب. تركي العبدالله السديري. 
صاحب الزاوية الأشهر في تاريخ الصحافة السعودية "لقاء" يودع اليوم محبيه بهدوء وسمت يشبهه كثيرا. منذ بدايات مكتب الجريدة وإمكاناته المتواضعة في حي المرقب بالرياض، مرورا بخريص، وصولا لحي الصحافة وما حواه من عمل مؤسسي لا يزال شاهدا لهذه اللحظة، بشبابه وشاباته، وبأحدث ما توصلت إليه الصحافة من أدوات، على قيمة متراكمة من العمل المؤسسي الذي تركه السديري لمن بعده داخل مؤسسة اليمامة وخارجها، محليا وعربيا.
وخلافا لكثير من الصحافيين الذين يعملون لأسمائهم فقط -وهذا حقهم- عمل أبومازن لصحافة الوطن، من خلال تأهيل الكوادر الشابة وإعدادها على المدى البعيد؛ ليصبح العمل الصحافي ولأول مرة مهنة تحقق الاستقرار والعائد المجزي مع الأمان الوظيفي.
إدارة مميزة ومنتجة، نَفَسها طويل، وأهدافها بعيدة المدى، مارسها السديري، لم تخلُ هي أيضا من متاعب المهنة الصحافية ذاتها، والتنقل بين أروقة التحرير بأنواعها الرياضية والمحلية والسياسية، فضلا عن متابعة الإخراج والتركيب وصولا لهنات الطباعة الورقية ومفاجآتها. 
ومع كل ذلك، كان السديري عازما وحازما فيما يصبو إليه؛ شاعرا بجسامة المهمة على عاتقه، إذ يدرك أنه سيحسب على جيل مؤسس لا بد أن يترك بصمته الصحافية بكثير مِن الإجادة والتميز. 
وكان له ما أراد، فالكل في وداعه اليوم يتفق حول ما تركه الفقيد من إرث وأثر لا يتكرر مهنيا وإنسانيا؛ حيث كثير من الصحافيين والإعلاميين في وداعه اليوم ممن عرفهم وممن لم يعرف يشهدون له وفِي غيابه بفضله عليهم بشكل مباشر أو غير مباشر. في تظاهرة قل أن تتكرر إلا لمن ترك في الناس أثرا حقيقيا ممتدا بعيدا عن تجاذبات الأفكار وصراعات التيارات. ليثبت السديري على منوال ندرة من المثقفين والأدباء المجددين الذين رحلوا عنا: أن بالإمكان دائما أكثر مما كان. باعثا الأمل في نفوس شابة تروم التنوير والتثقيف دون صدام مفتعل أو عراك لا طائل منه.
رحم الله فقيد الوطن وأسكنه فسيح جناته.